أمريكا لا تملك بديلا للسياسة الصناعية
بحلول نهاية سبعينيات القرن العشرين، كان من الواضح أن الاقتصاد الأمريكي يمر بورطة خطيرة. فقد أفرزت سنوات من التضخم درجة عميقة من الاستياء، وانخفض نمو الإنتاجية القابل للقياس عن الوتيرة التي كان عليها بعد الحرب العالمية الثانية التي بلغت 2% سنويا، إلى ما يقرب من الصفر، وبدا الأمر كأن قدرة أمريكا على الصمود في مواجهة الصدمات الجيوسياسية والجيواقتصادية في تضاؤل.
دعت النيوليبرالية إلى تقليص دور الدولة، وإلغاء القيود التنظيمية قدر الإمكان، والحد من إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، وقبول التفاوت الاقتصادي الأعلى كثمن معقول يجب دفعه لإعادة تنشيط المشاريع الخاصة وتحفيز "مُـنشئي الوظائف". كان الافتراض المركزي هو أن الأسواق ستحقق دائما نتائج أفضل مما تستطيع البرامج الحكومية تحقيقه. ومع ذلك يتمثل الإجماع اليوم في أن هذا النهج فشل فشلا ذريعا. لم يحدث شيء على النحو الذي تصوره أنصار النيوليبرالية، ما لم نحسب الزيادة الحادة في التفاوت في الثروة والدخل على مدار العقود الأربعة الأخيرة. في حين يرى كثيرون من الأثرياء الذين يمتلكون أبواقا دعائية ضخمة في هذه السمة من سمات عصرنا الـمُـذَهَّـب الثاني علامة على النجاح، فإنني أخالفهم الرأي، وأظن أن أغلب الأمريكيين يشاركونني وجهة نظري. أما عن السياسة الصناعية النشطة، فقد ولِـدَت ميتة، لأن الحجة الرئيسة ضدها أثبتت كونها مقنعة إلى حد بعيد. لم تكن الحجة أن الأسواق تنجح دائما في تصويب الأمور، أو أن الحكومات لم تنجح قط في الانخراط في سياسات صناعية داعمة للتنمية في الماضي. بل على العكس من ذلك، كان الإجماع يدور حول افتراض مفاده أن "التدخلات" الحكومية لإنشاء وتمويل المدارس والبنوك والسكك الحديدية، وفرض النوع الصحيح من التعريفات الجمركية وغير ذلك من الحواجز المقامة لحماية "الصناعات الوليدة" الحقيقية، عملت على تمكين البلدان من اغتنام الفرص الاقتصادية التي تولدها التكنولوجيات الصناعية. "لن يكون من المستحيل أن تختار الحكومة مسبقا توليفة صناعية رابحة فحسب، بل يكاد يكون من المؤكد أن محاولتها القيام بذلك من شأنها أن تتسبب في إحداث قدر عظيم من الضرر.
هناك مهام عديدة مهمة لا تستطيع سوى الحكومات الاضطلاع بها، ومع الجهد المستمر واليقظة، يصبح بوسعها القيام بهذه المهام على نحو مقبول. لكن الشيء الوحيد الذي لا تستطيع أغلب الأنظمة السياسية الديمقراطية، خاصة النظام الأمريكي، القيام به على نحو جيد على الإطلاق هو اتخاذ اختيارات حاسمة بين شركات أو بلديات أو مناطق بعينها، وتحديد أي منها سيزدهر وأي منها لن يزدهر بهدوء أعصاب، الآن، أصبح لدى الولايات المتحدة ثلاثة أسباب مفحمة للرهان بكل شيء على السياسة الصناعية. أولا، هناك الكارثة الوشيكة المتمثلة في الانحباس الحراري الكوكبي الجامح التي تتطلب العمل على نطاق أكبر كثيرا مما دعا إليه آل جور قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمن. ثانيا، هناك الحاجة إلى إعادة توجيه الاقتصاد الأمريكي من التمويل الساحلي وحكم الأثرياء إلى رخاء الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة على مستوى البلاد.
وثالثا، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج شراكة "بلا حدود" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قبل فترة وجيزة من شن الأخير غزوه الكامل لأوكرانيا. منذ ذلك الحين، بات من الواضح أننا نمر بمرحلة انتقالية جيوسياسية وجيواقتصادية تاريخية حيث، كما كتب آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم"، "يشكل الدفاع قدرا أعظم كثيرا من الأهمية مقارنة بالترف ورغد العيش".
لهذه الأسباب، فإن السؤال الأكثر أهمية في السياسة الاقتصادية في حالة أمريكا اليوم ليس ما إذا كان ينبغي لنا أن نلاحق سياسة صناعية. فنحن لا نملك ترف الاختيار. السؤال إذن هو كالتالي: ماذا يمكننا أن نفعل لإثبات خطأ شولتز؟
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024