كيف اندمج الاقتصاد السعودي بالعالمي؟
اذا أردت أن تكتب مقالا عن المراحل التاريخية للتطور الاقتصادي في السعودية، فلا بد أن ترتكز على قرار التوحيد كنقطة بداية، هذا صحيح إلى حد بعيد، لكن ليس بالضرورة دقيقا من الناحية العلمية، فالحراك الاقتصادي بالمعني الصحيح قد بدأ قبل ذلك بأكثر من 10 سنوات، عندما وقع الملك عبدالعزيز عقد امتياز مع شركة EGS، فانعتق الاقتصاد السعودي بذلك من الحقبة الفيزوقراطية التي هيمنت على البلاد لقرون طويلة.
فشركة EGS تستخدم التكنولوجيا لاستخراج النفط الخام وتصديره، وهذا يتطلب نماذح من العقود الاقتصادية الجديدة في وقت لم تزل فيه معركة التوحيد مشتعلة، إلا أن الملك عبدالعزيز استطاع إدارة عقد الامتياز ببراعة وحتى إلغاءه ونقل الامتياز لشركات أخرى، وفقا لنماذج المنافسة الحرة رغم المفاوضات الشائكة، ففي فبراير 1931، أي قبل عام إعلان التوحيد كان الملك عبدالعزيز قد بدأ فعليا في حملة شاملة لدراسة إمكانات التنمية في السعودية، وبدأ الأمر بإجراء مسح جيولوجي عبر البلاد من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب واستطاع بعد مفاوضات شاقة نظرا لظروف الكساد العالمي حينها إتمام عقد امتياز تدفع الشركة بموجبه 100 ألف جنيه ذهبًا عند توقيع الاتفاقية، و30 ألف جنيه ذهبًا سنويًا كإيجار، ودفع حد أدنى للريع قدره 200 ألف جنيه ذهبا سنويًا.
وقبل هذه الخطوة الحاسمة في تاريخ المالية عامة أنشئت وزارة المالية واستطاع الملك عبدالعزيز القيام بأول إصلاح نقدي عندما صدر أمره السامي 1928م، وأبطل التعامل بالريالات العثمانية لتحل محلها الريالات العربية ويكون الجنيه الإنجليزي هو المقياس لأسعار العملة الفضية العربية، كما استطاعت السعودية إطلاق مشاريع إمداد جدة بمياه الشرب، وإعادة اكتشاف منجم الذهب، وكما أشرت كان الملك عبدالعزيز حكيما وهو يرتب العلاقات الاقتصادية بشكل لم تشهده الجزيرة العربية من قبل، ولقد أسهمت هذه القرارات الجبارة في تمهيد اندماج الاقتصاد السعودي بالاقتصاد العالمي، والانطلاق نحو تنمية عظيمة بدأت مع التوحيد وقادها أبناء الملك عبد العزيز الأبرار من بعده.
لم يكن الأمر سهلا، فالصعوبات الكبيرة التي واجهت ذلك الاندماج ومنها قرار الولايات المتحدة الأمريكية إلغاء قاعدة الذهب وما واجه العالم أجمع بعدها من التضخم، وواجهت العملة في السعودية وهي في شكلها المعدني تحديات كبرى أيضا لتنطلق في عهد الملك فيصل رحمه الله مرحلة جديدة من التطور مع استخدام مفهوم التخطيط الاقتصادي التنموي بتفعيل الخطط الخمسية للتنمية، التي وضعت هدفها رفع مستوى معيشة المواطنين، مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وحددت لأول مرة أهداف النمو الاقتصادي عند 9.8 % سنويا، ومعدل إنفاق يبلغ 41.3 مليار ريال، عزز نجاح الخطة الأولى القفزة الكبيرة في أسعار النفط في تلك الفترة ليرتفع الإنفاق إلى 86.5 مليار ريال والنمو إلى 13.5 %.
لقد دخلت السعودية التحدي الاقتصادي المرتكز على دور الدولة في قيادة النمو باستمرار ضخ الأموال في شرايين الاقتصاد لدفع عجلة النمو تتويجا للفكر الاقتصادي الكنزي، الذي يعزز الدور المحوري للدولة في توجيه الاقتصاد، وكانت معظم الخدمات العامة بيد الدولة في تطبيق صريح لمفهوم دولة الرفاه، ما أنتج نهضة شاملة وعملاقة عمت أرجاء الوطن، وفي كل المجالات، واستمرت تلك الخطط في العمل حتى بلغت 9 خطط تنمية بدءا من 1970 حتى 2015، لكن رغم إسهامها الكبير في التنمية فقد فشلت تلك الخطط في معالجة اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط وتقلباته والتحول عن نموذج الاقتصاد الموجة بالدولة.
فقد جاءت ميزانية 2015 بإيرادات بلغت 608 مليارات بانخفاض 15 % عن المقدر لها، بسبب تراجع أسعار النفط، بينما بلغت الإيرادات غير النفطية 163 مليارا، وقد كانت الاستثمارات الحكومية والجمركية هي مرتكزها. لقد كان واضحا أن البلاد بحاجة إلى تحول فظهرت أول رؤية إستراتيجية متكاملة للسعودية في 2016 أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، كانت الرؤية السعودية 2030 امتدادا للأفكار الاقتصادية النهضوية التي بدأها الملك فيصل في رفع معيشة المواطنين، لكن الرؤية عالجت المفاهيم المتصلبة لخطط التنمية كما عالجت خلل الاعتماد على النفط بتنمية الإيرادات غير النفطية وزيادة مشاركة القطاع الخاص والتحول من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد تنافسي وتعزيز دور الاستثمارات الحكومية بظهور صندوق الاستثمارات العامة مع جذب للاستثمارات العالمية، فانطلقت إصلاحات غير مسبوقة في ظل حوكمة حديثة.
وبهذا جاءت ميزانية 2024 لتعكس حجم التحول الاقتصادي مع تجاوز الناتج المحلي عتبة 4 تريليونات ريال وبحجم إنفاق قياسي عند 1.251 مليار ريال، وسجل القطاع غير النفطي نموا تجاوز 5%، والإيرادات غير النفطية 441 مليار ريال وانخفضت البطالة إلى مستويات تاريخية عند 7%، وبلغت القيمة السوقية للأسهم المتداولة أكثر من 14 تريليونا، يتملك الأجانب 12% منها، مع مشاريع رأسمالية عملاقة من بينها نيوم والقدية والمربع والدرعية. وما يمكن قوله عند قراءة هذه المراحل التي مرت على الاقتصاد السعودي منذ التوحيد أنه اقتصاد مخطط له بشكل علمي شاركت فيه مؤسسات عالمية وعقول وطنية، وأن هدفه الأول لم يتغير وهو رفع مستوى معيشة المواطنين وجودة الحياة، مع الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهكذا هي الدول العريقة ذات التنمية المستدامة.