التضخم ينحسر والاقتصاد العالمي على 3 محاور

دعونا نبدأ بالأخبار السارة، يبدو أن العالم قد انتصر في معركته ضد التضخم بشكل كبير، حتى وإن كانت الضغوط السعرية لا تزال مستمرة في بعض البلدان. فبعد أن بلغ التضخم الكلي ذروته عند 9.4% على أساس سنوي مقارن في الربع الثالث من 2022، نتوقع هبوطه إلى 3.5% مع حلول نهاية العام القادم، وهي نسبة أقل قليلا من مستواه المتوسط خلال العقدين السابقين على الجائحة. وفي معظم البلدان، أصبح التضخم يقترب الآن من مستهدفات البنوك المركزية، وهو ما يمهد الطريق للتيسير النقدي عبر البنوك المركزية الكبرى.
وقد ظل الاقتصاد العالمي محتفظا بقدرته على الصمود بصورة غير عادية على امتداد عملية خفض التضخم. ويُتوقع استمرار النمو بصورة مطردة عند 3.2% في 2024 و2025، وإن كانت توقعات النمو في بعض الاقتصادات منخفضة الدخل والاقتصادات النامية قد خُفَّضت بشكل كبير، وهو ما يرتبط في المعظم باحتدام الصراعات.
وفي الاقتصادات المتقدمة، يتسم النمو في الولايات المتحدة بالقوة، حيث بلغ 2.8% هذا العام، لكنه سيتحول نحو مستواه الممكن في 2025. وفي الاقتصادات الأوروبية المتقدمة، يُتوقع انتعاش النمو بدرجة طفيفة العام القادم، مع اقتراب الناتج من مستواه الممكن.
وتراجع التضخم بدون حدوث ركود عالمي يمثل إنجازا كبيرا. تأتي الطفرة في التضخم ثم ما تلاها من تراجع انعكاسا لمزيج فريد من الصدمات، التي تمثلت في الاضطرابات في سلاسل الإمداد على نطاق واسع مقترنة بضغوط الطلب القوية في أعقاب الجائحة، تلتها زيادات حادة في أسعار السلع الأولية بسبب الحرب في أوكرانيا.
ومن الواضح أن جزءا كبيرا من تراجع التضخم يمكن أن يُعزى إلى تراجع حدة الصدمات نفسها، وما اقترن به من تحسن في عرض العمالة، الذي ارتبط بزيادة الهجرة في كثير من الأحيان. إلا أن السياسات النقدية كان لها دور حاسم أيضا من خلال المحافظة على ثبات توقعات التضخم، وتجنب دوامات الأجور والأسعار الضارة وتكرار تجربة التضخم الكارثية، التي حدثت في حقبة السبعينيات.
والمحور الأول، هو السياسة النقدية، جاري العمل بشأنه بالفعل. فمنذ يونيو الماضي، شرعت البنوك المركزية الكبرى في الاقتصادات المتقدمة في تخفيض أسعار الفائدة الأساسية، والتوجه نحو موقف محايد. وسيدعم هذا التوجه النشاط الاقتصادي في وقت تُظهر فيه كثير من أسواق العمل في الاقتصادات المتقدمة علامات تراجع، في ظل ارتفاع معدلات البطالة.
وانخفاض أسعار الفائدة في الاقتصادات الكبرى سيخفف الضغوط على اقتصادات الأسواق الصاعدة، مع تعزيز عملاتها مقابل الدولار الأمريكي وتحسن الأوضاع المالية. ومن شأن هذا الأمر أن يساعد على الحد من الضغوط التضخمية القادمة من الخارج، ما يجعل من الأسهل على هذه البلدان مواصلة مسارها الخاص لخفض التضخم.
وأخيرا، في حين ظلت توقعات التضخم ثابتة بالفعل في هذه المرة، فقد تصبح أكثر صعوبة في المرة التالية، لأن العمال سيكونون أكثر حذرا بشأن حماية أجورهم، والشركات في حماية أرباحها.
أما التحول الثاني، فهو في السياسة المالية العامة. فالحيز المالي هو حجر الزاوية في الاستقرار الاقتصادي الكلي والمالي. وبعد سنوات من انتهاج سياسة مالية تيسيرية في كثير من البلدان، آن الأوان لتثبيت ديناميكيات الدين وإعادة بناء هوامش الأمان المالي التي تشتد الحاجة إليها.
وعلى الرغم من أن تراجع أسعار الفائدة الأساسية يوفر بعض التخفيف في أعباء المالية العامة عن طريق خفض تكاليف التمويل، لن يكون هذا الأمر كافيا، ولا سيما أن أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة. وفي كثير من البلدان، يتعين تحسين الأرصدة الأولية
والتحول الثالث - والأصعب - نحو الإصلاحات المعززة للنمو. فلا يزال يتعين بذل جهود أكبر بكثير لتحسين آفاق النمو وزيادة الإنتاجية، لأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكننا به التصدي لتحديات كثيرة نواجهها، أي إعادة بناء هوامش الأمان المالي، ومواجهة مسألة شيخوخة السكان وتراجع النمو السكاني في مناطق كثيرة من العالم
ولسوء الطالع، فإن آفاق النمو ستظل ضعيفة لـ5 سنوات من الآن، فلا تتجاوز 3.1%، وهي أدنى نسبة منذ عقود. وفي حين يعكس جانب كبير من هذا الأمر آفاق النمو الأضعف للصين، تدهورت أيضا التوقعات على المدى المتوسط في مناطق أخرى، منها أمريكا اللاتينية والاتحاد الأوروبي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي