مانموهان سينج وصناعة المعجزة الهندية
لم يكن سينج، الذي قاد الهند من 2004 إلى 2014، مجرد سياسي بارع قاد الإصلاحات الاقتصادية في بلاده بدعم من زعيمة المؤتمر الوطني الهندي آنذاك سونيا جاندي وسلفه ناراسيمها راو. بل كان أيضا شخصا رقيقا ومنفتحا -مواطنا عالميا حقيقيا. ويكاد يكون من المؤكد أنه سَـيُذكَر على أنه المهندس الذي أشرف على تحول الهند من واحدة من أفقر دول العالم وأبطأها نموا إلى القوة الصاعدة التي أصبحت عليها اليوم.
قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، كان سينج شغل بالفعل مناصب عديدة بارزة في الحكومة وعملية صُـنع السياسات، بما في ذلك منصب محافظ بنك الاحتياطي الهندي (1982-1985) والأمين العام للجنة الجنوب في جنيف (1985-1987). وفي 1991، عُـيَّـن وزيرا للمالية خلال واحدة من أسوأ الفترات في تاريخ الهند الاقتصادي. فعلى الرغم من بعض التقدم الذي أحرزته الهند منذ حصولها على الاستقلال في 1947، فإنها ظلت تعاني الفقر المدقع وابتليت ببطء نمو نصيب الفرد في الدخل، وتدني مستويات الصحة والتعليم، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، فضلا عن نقص مُـفـجِـع في البنية الأساسية للنقل، والاتصالات، والمياه والصرف الصحي.
كان تعيين سينج نقطة تحول. ففي العقود التي تلت الاستقلال، كان السياسيون الهنود ملتزمين بتعزيز النمو والحد من الفقر من خلال المؤسسات العامة وفرض الضوابط الحكومية الصارمة على مختلف أنشطة القطاع الخاص تقريبا. لكن هذا النهج عزز السعي وراء الريع وأسفر عن أداء اقتصادي هزيل، والذي استحق السخرية على نطاق واسع بوصفه "معدل النمو الهندوسي".
من الممكن أن تُعزى مشاكلات الهند الاقتصادية جزئيا إلى سياساتها التجارية. فقد شَـجَّـعَ جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للبلاد بعد الاستقلال، إحلال الواردات بهدف الاستعاضة عن السلع الأجنبية بالإنتاج المحلي من خلال فرض رسوم جمركية عالية وغير ذلك من حواجز الحماية. ومع ذلك، فاق الطلب على الواردات نمو الصادرات، وأدى النقص الواسع النطاق إلى ظهور الاحتكارات المحلية التي لم يكن لديها حافز كبير لتحسين الجودة.
بحلول 1991، انخفضت حصة الهند في التجارة العالمية إلى 0.5% من 1.8% في 1950. فعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة على مدى عقود من الزمن، ظل معدل الفقر على حاله إلى حد كبير منذ الاستقلال. عندما أصبح سينج وزيرا للمالية، كانت الهند تتصارع مع أزمة حادة في ميزان المدفوعات وكانت موضع سُـخرية باعتبارها "حالة ميؤوس منها".
بدعم من رئيس الوزراء الهندي آنذاك ناراسيمها راو وفريق من أهل الاقتصاد الموهوبين، نفذ سينج إصلاحات شاملة أحدثت ثورة في إطار السياسة الهندية. فقد خُـفِّـضَـت قيمة الروبية، وأُلغيت ضوابط الاستيراد إلى حد كبير، وجرى تخفيف أو إلغاء الضوابط التنظيمية المفروضة على إنتاج القطاع الخاص والأسعار، وتحرير قطاعات كبيرة من الاقتصاد.
كانت النتائج مبهرة. ففي غضون عام واحد، تحسنت الظروف الاقتصادية بشكل كبير، وعلى الرغم من تغيير الحكومة، لم يحدث أي تراجع عن الإصلاحات. بعد فوز حزب المؤتمر الوطني الهندي في انتخابات 2004، عينت زعيمة الحزب سونيا جاندي سينج رئيسا للوزراء، الأمر الذي مِـكَّـنَـه من المضي قدما في أجندته الإصلاحية.
الواقع أن التحول اللاحق في الهند كان "غير عادي" في أقل تقدير. ففي 1993، كان 48% من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر وفقا للبنك الدولي. وبحلول 2015، انخفضت هذه النسبة إلى 18.8%، ثم هبطت منذ ذلك الحين إلى 12.9%. قبل 3 عقود من الزمن، كان من غير المتصور أن يتطور الاقتصاد الهندي المنخفض الدخل والمتعثر ليتحول إلى سوق ناشئة متوسطة الدخل. واليوم، يعد الاقتصاد الهندي أحد أسرع الاقتصادات نموا في العالم، وتبلغ حصته 2.6% من التجارة العالمية. الواقع أن النمو كان سريعا إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى تحديد هدف طموح يتمثل في تحقيق وضع الاقتصاد المتقدم بحلول 2047.
يقدم نجاح أجندة سينج السياسية الجريئة درسا مستداما للقادة السياسيين، الشجاعة والالتزام بأهداف بعيدة الأمد من الممكن أن يحسن الآفاق الاقتصادية لأي بلد بدرجة كبيرة. وإذا استمرت الهند على مسارها الإصلاحي الحالي، فقد يتسنى لها ترسيخ ذاتها كقوة عالمية بحلول نهاية القرن، إن لم يكن قبل ذلك. ولو استعان صُـنّـاع السياسات في كل مكان بصفحة (أو صفحتين) من دليل مبادئ سينج، لأصبح العالم مكانا أفضل كثيرا.