هل تعيد البنوك المركزية النظر في خطط خفض الفائدة؟
بدأ الاقتصاد العالمي أخيرا في التقاط أنفاسه مع اتجاه البنوك المركزية لخفض تكاليف الاقتراض. فقد عانى على مدار السنوات الماضية تبعات دورة التشديد النقدي التي انطلقت بعد اندلاع الأزمة الروسية - الأوكرانية، بهدف السيطرة على التضخم الناتج عن الصدمات التي لحقت بأسعار السلع الأساسية مثل الطاقة والغذاء، بجانب أزمة سلاسل الإمداد والتوريد وارتفاع تكاليف الشحن. وقد خلقت أسعار الفائدة المرتفعة قيودًا على النشاط الاقتصادي، ودفعت كثيرا من الاقتصادات الكبرى وبالأخص في القارة الأوروبية للدخول في مرحلة ركود، بسبب التأثير المباشر في معدلات الاستهلاك والطلب المحلي.
ومع بداية 2025 بدأت نسبة مهمة من صانعي السياسات النقدية يدعون للتريث وعدم التسرع في خفض الفائدة. حيث يرون أن التضخم ما زال عرضة للارتفاع مرة أخرى بمستويات مقلقة، وذلك في ظل أوضاع جيوسياسية متقلبة تؤثر في حركة الشحن والتجارة العالمية. إضافة إلى ارتفاع حدة التنافس التجاري، واتجاه الدول لفرض رسوم جمركية متبادلة على واردات السلع من أهم الشركاء التجاريين. الأمر الذي يدفع بتكلفة السلع للصعود ويترك أثرًا ملحوظ في معدلات التضخم العالمية.
المستجدات الحالية دفعت بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تثبيت أسعار الفائدة خلال أول اجتماع في 2025، مع توقعات بأن تستمر الفائدة عند مستوياتها الحالية البالغة 4.5% خلال النصف الأول من العام. وسينتظر الفيدرالي حتى النصف الثاني من العام لتقييم الوضع على أن يكون معدل الخفض في حدود ضيقة بهدف السيطرة على التضخم وانتظار التأثير المتوقع للرسوم الجمركية.
مخاوف البنوك المركزية من تأجيج التضخم لا تقف عند الرسوم الجمركية، إنما تمتد إلى خطط السياسات المالية والإنفاق الجديدة من الحكومات. حيث تستعد السلطات المالية في مختلف دول العالم وبخاصة في أوروبا لتبني سياسات إنفاق أكثر توسعية بهدف دعم النشاط الاقتصادي المتعثر وتحسين الطلب والإنفاق الاستهلاكي.
تشمل تلك السياسات محاور متعددة منها تقديم الدعم المباشر للمستهلكين لتعزيز إنفاقهم، بجانب خطط لزيادة الاستثمارات الحكومية على مشاريع البنية التحتية، إضافة إلى خفض الضرائب على الأنشطة الصناعية والإنتاجية. وتؤدي تلك الحزم التحفيزية في ظل أسعار الفائدة المنخفضة إلى ضغوط على التضخم. حيث يدفع الطلب المتنامي من المستهلكين إلى ضغوط على أسعار السلع والخدمات، ويقف كعائق أمام مستهدفات البنوك المركزية للتضخم.
ورغم مخاوف صناع السياسة النقدية من خطر اشتعال التضخم من جديد. يبقى السؤال الأهم، هل الأولوية للاقتصاد العالمي في الوقت الحالي للسياسة النقدية؟ الإجابة هي لا، فمخاطر الانكماش الاقتصادي وما ينتج عنها من معدلات بطالة مرتفعة، وتآكل للأنشطة الإنتاجية أكبر على المدى القصير من التضخم. أسباب ذلك تعود إلى أن الاقتصاد العالمي يعيش حالة من الشك لم يشهدها منذ عقود بسبب ارتفاع حدة التنافس الجيوسياسي وما تخلفه من صدمات تؤثر في حرية التجارة والاستثمار.
بالتالي فإن دور السياسة المالية التي تضخ الأموال بهدف تنشيط الاقتصاد وإخراجه من حالة الخمول التي يشهدها منذ سنوات تمثل الضرورة القصوى على المدى القصير.
ويحمل التباطؤ في خفض الفائدة وبالأخص في الولايات المتحدة تأثيرًا مباشرا في المملكة. حيث يؤدي استمرار تكاليف الاقتراض عند مستويات مرتفعة إلى ضغوط على الطلب العالمي على الصادرات السعودية وفي مقدمتها صادرات الطاقة وما يرتبط بها من سلع مثل البتروكيماويات.
على المستوى المحلي، تصنع أسعار الفائدة المرتفعة ضغوطًا على القطاعات الإنتاجية والاستهلاكية. وبالتالي تأثيرا مباشرا في معدلات النمو الاقتصادي والتشغيل. التأثر يصيب أيضا الميزانية الحكومية، بسبب تحملها تكاليف أعلى للاقتراض سواء من الأسواق المحلية أو الدولية.
ختامًا فإن حالة الشك التي يمر بها العالم تدفع البنوك المركزية إلى التريث في خفض الفائدة. لكن المخاطر التي تحيط بالاقتصادات تدفع الحكومات لإعطاء الأولوية للسياسات المالية وليس النقدية، في محاولة لإنعاش الاقتصاد ودرء مخاطر الركود التي أصبحت تحيط بالجميع.