الفساد الذي لم يلتفت إليه ترمب
منذ الحملة الانتخابية وترمب وفريقه يؤكدون عدم كفاءة حكومة بايدن، وأن هناك كثيرا من الهدر الذي بلغ حد الفساد، وتم تعيين إيلون ماسك صاحب سيارات تسلا الشهيرة مسؤولا عن كفاءة الإنفاق في حكومة ترمب، وتشير وكالات الأنباء إلى أنه في غضون 9 أسابيع فقط، قام بتفكيك وكالات بأكملها وصدرت قرارات من بينها إلغاء وزارة التعليم، وتم فصل عشرات الآلاف من العاملين من أصل 2.3 مليون موظف فيدرالي، أو وافقوا على ترك وظائفهم، وفي مقابل ذلك انتشرت هجمات عديدة على سيارات تسلا، لأنها تمثل مشروع ماسك، فتم إحراقها في مدن عديدة.
وفي وصفه للهدر يقول ماسك في مقابلة متلفزة "إن الفساد كان يصل لدرجة أن استطلاعا للرأي يكلف الحكومة مليار دولار بينما يمكن إنجازه بعشرة آلاف دولار"، وفي نفس اللقاء الذي نشرته قناة الشرق في موقعها، وفي وصف مهم قال مدير اللقاء عن ماسك "إنه موظف حكومي خاص"، هذا المصطلح جديد نوعا ما، ذلك أنه عند ماسك مع حكومة ترمب يمتد إلى 130 يوما فقط، وهي المدة التي وعد فيها ماسك بخفض العجز.
يبدو أن الطريق وعر قليلا. فلقد وصل عجز الحكومة الفيدرالية، الذي اتسع في الموازنة الفيدرالية الأمريكية إلى رقم قياسي بلغ 840 مليار دولار خلال الثلث الأول من السنة المالية، ولعل القارئ غير المتخصص يتنبه إلى أن الحديث هنا عن عجز مالية الحكومة الفيدرالية وليس الولايات، وأن محاولات ماسك لا تتجاوز الحكومة الفيدرالية.
مشكلة الفساد في الولايات الأمريكية لن تجد حلها في تخفيضات الميزانية التي يسعى ماسك لمعالجتها.
لا أظن أن حكومة الولايات المتحدة غارقة في فساد من النوع الذي ذكره ماسك عن الاستطلاع الذي كلف مليارا، فالحكومات الأمريكية تطبق نظم حوكمة هي الأفضل في العالم، لكن الفساد الذي لم يعالجه ترمب ولم يلتفت إليه حتى الآن هو الفساد الذي أصاب قيمة الدولار الحقيقية. لقد عملت الحكومة الفيدرالية منذ الأزمة المالية 2008 بشكل خاص على معالجة كل الأزمات الاقتصادية من خلال افتعال فقاعة أصول جديدة في كل مرة، وهذا يتم من خلال قيامها بطباعة الدولار في مقابل الدين، ثم استخدام الأموال في تسهيلات وتيسيرات كمية لشراء الأصول.
هذا بدوره يضعف الدولار أكثر فيتسبب في أزمة جديدة، فما إن خرجنا من أزمة 2008 التي تم فيها إنقاذ البنوك والأسواق المالية بشراء الأصول السيئة وبدأت ملامح الاستقرار حتى انتشر فيروس كورونا لتبدأ موجة جديدة من التيسيرات الكمية للمحافظة على الأسواق، ثم موجة التضخم وارتفاع أسعار الفائدة.
لقد عملت الحكومات الأمريكية في المسار الذي سارت فيه الإمبراطوريات العظمي من قبل، وهو إفساد العملة للسيطرة على الأحداث، وهذا ما فعلته الإمبراطورية البريطانية خلال استعمارها للهند، على تدمير قيمة الفضة، أولاً بإغلاق دور السك الهندية أمام الفضة في 1893.
وبوضع الروبية في وقت لاحق على أساس الذهب وإجبار مخزون الحكومة الهندية من الفضة على دخول السوق، ولقد تسببت هذه الإجراءات والقوانين في خفض ثروات وأموال نحو نصف سكان العالم، بل في إفقارهم، لكنها كانت في الوقت نفسه تأكل من قدرات بريطانيا حتى انتهت بعد ذلك كقوة عظمى، وقبلها تلاعب السلاطين العثمانيون بالعملة من حيث التلاعب بما تحويه من فضة، وانتهى ذلك التلاعب بضعف الدولة ومن ثم انهيارها لاحقا.
وكذلك الحال في الدولة العباسية عندما تلاعب سلاطين الدولة في كميات الفضة في الدرهم وتلاعبوا في النسبة بين الذهب والفضة، وتسببت كل تلك الأحداث الاقتصادية في انهيار الدولة في نهاية الأمر.
هكذا تبدأ الأمور عندما تتصاعد التحديات الاقتصادية والعجز في الميزانية والموازين التجارية، تتجه الحكومات التي بيدها صناعة العملة إلى التلاعب فيها وإصدارها بشكل يقلل من قيمتها الحقيقية، ويبدو أن التلاعب بالاقتصاد والحروب التي لا طائل من ورائها حلم الإمبراطوريات العظمي يقود إلى تداعيات اقتصادية تنتهي بالتلاعب بالعملة وقبل الانهيار الأخير والحتمي، لذلك إذا كان ترمب يريد إنقاذ أمريكا واستعادتها، فعليه أن يصلح من وضع الدولار أولا.