الحكومات ليست شركات ناشئة
في مختلف أنحاء العالم، تحاول الحكومات إعادة اختراع نفسها في صورة عمل تجاري. الواقع أن حملة إدارة الكفاءة الحكومية بقيادة إيلون ماسك في الولايات المتحدة الأمريكية واضحة تماما في التأكيد على هذه النقطة. تكمن المشكلة في أن الحكومات والشركات تخدم أغراضا مختلفة تمام الاختلاف. وإذا بدأ صناع السياسات العامة في محاكاة مؤسسي الشركات، فإنهم بهذا يقوضون قدرتهم على مواجهة تحديات مجتمعية معقدة.
في حالة الشركات الناشئة، تتمثل الأولوية القصوى في التكرار السريع، وتعطيل النظام القائم بالاستعانة بالتكنولوجيا، وتحقيق العوائد المالية لمصلحة المستثمرين. ويتوقف نجاحها غالبا على حل مشكلة ضيقة التعريف بمنتج واحد، أو داخل مؤسسة واحدة. على النقيض من ذلك، يتعين على الحكومات أن تعالج مشكلات معقدة ومترابطة مثل الفقر، والصحة العامة، والأمن الوطني. ويستلزم كل تحد التعاون بين قطاعات متعددة، والتخطيط الدقيق الطويل الأجل.
على عكس الشركات الناشئة، من المفترض أن تلتزم الحكومات بتكليفات قانونية، فتضمن توفير الخدمات الأساسية، وتطبق المساواة في المعاملة بموجب القانون ــ وهو أمر أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى. قد يُـفـضي تقديم تطبيق صحي رقمي جديد ضمن نظام رعاية صحية ضعيف إلى تحسينات تدريجية، لكنه لن يعالج المشكلات الجهازية الأساسية، مثل نقص العاملين في المجال الطبي أو التحديات الجغرافية. الأسوأ من ذلك أن تطبيق منطق الشركات الناشئة على الخدمات العامة قد يقودنا إلى حلول مجزأة تتسبب في تفاقم أوجه القصور القائمة.
تختلف العملية التي تتعلم الحكومات من خلالها تقديم نتائج أفضل بدرجة عميقة عن عمليات تَـعَـلُّـم الشركات الناشئة. وبدلا من احتضان ثقافة الشركات الناشئة دون بصيرة، ينبغي للحكومات أن تدرس الجهود السابقة لتحديث وإصلاح الخدمات العامة. وهناك ستجد دروسا عديدة ينبغي لها أن تستوعبها.
أولا: يحتاج القطاع العام إلى أساس جديد في الاقتصاد. يخلط النموذج السائد الذي يركز على "الكفاءة" غالبا بين المخرجات (كم عدد الوجبات المدرسية المدعومة؟) والنتائج (إلى أي مدى كانت الوجبات مغذية ومستدامة، أو كان مقدار اعتمادها على المصادر المحلية؟)، كما يستند هذا النموذج إلى ثنائية العام والخاص المفرطة في التبسيط. وتكون النتيجة المبالغة في الاعتماد على استدلالات سطحية مثل تحليل التكلفة والعائد، الذي لا يقيس بالضرورة التقدم المحرز نحو النتائج الجهازية المرجوة. تحتاج الحكومات أيضا إلى تحسين كيفية حساب قيمة الاستثمار العام الطويلة الأجل.
يتمثل درس ثان في أهمية التنوع كواحد من الأصول، وليس بوصفه ممارسة للقوامة السياسية. على مدار القرن الماضي، سعى القطاع العام حثيثا إلى تحقيق الشمولية والتوحيد، إذ يجب أن تكون الخدمات في البلدات الصغيرة جيدة ومتاحة بذات القدر المعتاد في المدن الأكثر ثراء.
ثالثا: يحتاج القطاع العام إلى إيجاد التوازن بين قدراته السياسية، وصنع السياسات، وتنفيذها. الحكومات أكثر من مجرد آلات إدارية، فهي تتطلب القيادة السياسية، وحس الغرض، والقدرة على تعديل السياسات.
في عموم الأمر، لتزويد القطاع العام بالقدرات التي يحتاج إليها لمواجهة التحديات المعاصرة، يتعين على الحكومات ــ وما أسماه أحدنا "الدول الريادية" ــ أن ترعى 6 قدرات تمكنها من التعلم، والتكيف، وتعديل المسار. تتمثل الأولى في الوعي الإستراتيجي: القدرة على رصد التحديات والفرص الناشئة بشكل استباقي. والثانية قابلية الأجندة للتكيف، بحيث يصبح من الممكن الموازنة بين الأولويات مع الاستجابة في ذات الوقت للأزمات. والثالثة بناء التحالفات والشراكات، بحيث يتسنى للقطاع العام من تعزيز التعاون بين القطاعات ومع المجتمعات المحلية.
تتمثل القدرة الرابعة في التحول الذاتي: التحديث المستمر لمجموعات مهارات الهيئات العامة، وهياكلها التنظيمية، ونماذجها التشغيلية. وهذا يفترض مسبقا قدرة خامسة: التجريب والحل التكراري للمشكلات في تقديم الخدمات العامة. وأخيرا، يحتاج القطاع العام إلى أدوات ومؤسسات موجهة نحو تحقيق النتائج.
لا ينبغي للحكومات أن تُـدار كما تدار الشركات الناشئة، لأنها تخدم أغراضا مختلفة بدرجة كبيرة، وتستجيب لدوائر مختلفة، وتعمل وفق جداول زمنية مختلفة تمام الاختلاف. كما يجب أن يكون الإصلاح ضاربا بجذوره في فهم عميق لديناميكيات القطاع العام، وليس الرغبة في محاكاة الشركات الناشئة التي يتجاوز رأسمالها مليار دولار (unicorns) والتي تسعى إلى إحداث الإرباك الكبير التالي ــ بعد فوات الأوان. أجل، نحن نتعلم من لحظة إلى أخرى أن الإرباك وتعطيل النظام القائم وحده ليس سوى وصفة للكارثة.
خاص بـ "الاقتصادية"[
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.