الفوضى الأمريكية فرصة ينبغي لأوروبا اغتنامها
سياسات ترمب أحدثت تقارباً أوروبياً لم يكن متوقعاً لكنه لن يؤتي ثماره إلا بنهوض اقتصادي ألماني
إقبال المستثمرين على اليورو كملاذ آمن رفع قيمته فيما تضغط السياسات على الدولار.
تغير الإيقاع الجنائزي الذي اتسمت به خطوات مسؤولي الاتحاد الأوروبي، على الأقل منذ بضعة أشهر خلت إلى عنفوان، إذ تدفع حرب الرسوم الجمركية التي يشنها دونالد ترمب وهجماته على سيادة القانون الأوروبيين إلى تكاتف أكبر، وتحثّ المستثمرين على الإقبال على اليورو كملاذ آمن.
فما هو سقف أشد الخطوات توثباً من حيث تحقيق التغيير الضروري؟ وذلك مع إدراك أن ألمانيا تواجه عاماً ثالثاً على التوالي من الركود وعدم إغفال تحذيرات ماريو دراجي من المعاناة البطيئة، التي ما تزال تدوي في آذان التكنوقراط.
سياسات ترمب تعزز وحدة الأوروبيين
لا شك أن هجوم ترمب على العلاقة عبر الأطلسي، التي تمثل ما قيمته 1.5 تريليون دولار من التجارة، نجح في إثبات قيمة الاتحاد الأوروبي بما يفوق قدرة ألف ورقة بيضاء. وأدت هجماته على حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا إلى تعزيز التضامن بين الأعضاء، حتى أن الدنمارك المؤيدة تقليدياً للولايات المتحدة تخلت عن تشككها حيال أوروبا في أعقاب ضغوطه بشأن جرينلاند. كما تتغير احتمالات انضمام النرويج وأيسلندا للاتحاد الأوروبي. حتى المملكة المتحدة تتقرب من بروكسل فيما تذوي علاقتها المميزة مع الولايات المتحدة.
بما أن السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، التي يضم 440 مليون نسمة، صامدة في وجه ترمب، فإن الدول الأعضاء أصبحت أيضاً أكثر استعداداً لكسر المحرمات الوطنية من أجل الصالح العام.
تعمل الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا على التحول عن التقشف من خلال حزمة تربو على 500 مليار يورو (574 مليار دولار) لدعم البنى التحتية والدفاع. كما حققت حديثاً لحظة حسم عبر الدفع نحو تخفيف القواعد المالية للاتحاد الأوروبي التي كانت تدافع عنها ذات يوم.
ردع نووي أوروبي
من ناحية أخرى، تبدو فرنسا مستعدة للنظر في إعادة تشكيل الدفاع القاري من خلال توسيع الردع النووي، وهذا يروق لبولندا فيما تشاهد التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا.
إن تحول تيار الاستثمار والبحث العلمي لمصلحة أوروبا يسهل تعزيز استقرارها وإمكانية استشراف آفاقها والمساواة مع أمريكا. قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حديثاً: "ليس لدينا إخوة ولا أوليجارشيون"، فيما تسارع مؤسستها إلى إطلاق تمويل وحوافز أخرى لجذب العلماء الذين تجنبتهم إدارة ترمب.
خسر الدولار الأمريكي نحو 9% من قيمته هذا العام مقابل سلة من العملات العالمية، أما قيمة اليورو فزادت بنحو 5%، وشهدت أسهم في قطاع الدفاع مثل ”راينميتال“ (Rheinmetall) ارتفاعات كبيرة.
مع ذلك، ما زال الاتحاد الأوروبي يبدو غير مستعد بشكل جيد للعاصفة التي تتلبد غيومها. إذ إن اقتصاد ألمانيا يعتمد على التجارة الخارجية أكثر بمرتين من اقتصاد الولايات المتحدة، لذا فإنها عرضة للخطر بشكل خاص نظراً لاعتمادها على أمريكا كسوق لأكثر من عشر صادراتها من منتجات مثل السيارات والأدوية، وفقاً لبلومبرغ إيكونوميكس.
خطر من جانب الصين
تشير أحدث توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا سيستقر هذا العام، ونظراً لعدم اليقين الشديد هناك احتمال أن ينكمش الاقتصاد الألماني للعام الثالث على التوالي، كما تحذر الخبيرة الاقتصادية في بنك ”آي إن جي“ شارلوت دي مونبلييه.
إضافة إلى فقدان الوظائف والسخط الشعبي الذي قد تجلبه حرب الرسوم الجمركية مع ترمب، هناك أيضاً خطر أن يجد الاتحاد الأوروبي نفسه يخوض حرباً تجاريةً على جبهتين مع تكثيف الصين لمحرك صادراتها وإعادة توجيهها لسيل من البضائع إلى أوروبا.
إن اختبار آلام التجارة في الصيف المقبل لا يتمثل في قدرة الاتحاد الأوروبي على الإسراع في إبرام صفقة مع ترمب في غضون 90 يوماً، كما يبدو أن رئيس شركة ”إل في إم إتش“ الملياردير برنارد أرنو يعتقد. إن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي سيباشر تنفيذ وصفة دراجي التي طرحها منذ عام لتحقيق النجاح من خلال تعزيز الصناعات المحلية المتشرذمة، وإنشاء سوق واحدة حقيقية للبنوك، ودمج أسواق رأس المال المتباينة.
ستساعد الأسواق الجديدة والتحالفات في الخارج، لكن كما بينت كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، إن الجمع بين مزيد من الإنفاق ومزيد من التكامل هو فقط ما سيدفع النمو ويحسن قدرة أوروبا على الصمود.
بما أن وضع خطط الإنفاق الجديدة موضع التنفيذ سيتطلب بعض الوقت، ربما لا يكون افتقار سياسات الحكومة الألمانية الجديدة للجوهر في مجالات مثل معاشات التقاعد أو خفض البيروقراطية باعثاً على الطمأنينة.
رغم أن أوروبا تبدو في حالة جيدة وسط الفوضى التي تقودها الولايات المتحدة، فإن جذب المواهب والاستثمارات مع إضعاف جاذبية الشعبويين في الداخل سيتطلب وحدةً من مستوى جديد تماماً.
حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد هذا الشهر قائلة: "لا يمكننا أن نتوقف في منتصف الطريق". وتعمل مؤسستها على مواجهة تحدي تخفيف السياسة النقدية لتحفيز الطلب. لقد حان الوقت لأن تباشر الحكومات إزالة الحواجز التي تضعها أمام النمو ويعتبرها دراجي، سلف لاجارد، مكافئةً لرسوم جمركية قدرها 45% على البضائع وضريبة بنسبة 110% على الخدمات.
إن كان هذا يعني معالجة محظور آخر هو الحاجة إلى مزيد من التصويت بالأغلبية المؤهلة بدل إجماع الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فمرحباً بذلك، فهو صدمة أخرى مفيدة، ولو كانت مؤلمة، ناجمة عن تصرفات ترمب.
خاص بـ "بلومبرغ"