أبودلف الينبعي .. أول رحالة عربي يزور الصين
تتحدث المصادر التاريخية عن أول رحالة عربي يزور الصين، ويدون رحلته، هو أبو دلف الينبعي، وذلك سنة 331هـ. وقد ظل أمر هذه الرحلة غامضا مجهولا حتى تم اكتشاف المخطوطة الأصلية سنة 1923م في مكتبة مشهد، ثم حققت وطبعت، أما قبل ذلك فلم يكن يعرف عنها سوى نتف يسيرة تشير إليها مصادر تراثنا، وباكتشاف هذه الرحلة يستطيع الباحث تكوين نظرة أكثر تكاملا عن صاحبها، ويتعرف على بعض الملامح التي كانت عليها الصين آنذاك.
من هو أبو دلف
هو مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبعي، ينتمي نسبا إلى قبيلة الخزرج الأنصارية الشهيرة، وموطنه الأصلي هو مدينة ينبع المعروفة في غربي المملكة العربية السعودية على ساحل البحر الأحمر. ولد في أواخر القرن الثالث الهجري، ولا نعرف شيئا عن طفولته ونشأته، لكنه يدعي أنه سبط العالم الشهير محمد بن زكريا الرازي، الطبيب والكيميائي المعروف، إلا أن الوزير ابن العميد ينكر عليه هذا الادعاء، ويذكر أنه شاهد الرازي، ولم يكن له بنت.
عشق أبو دلف الترحال، والأسفار، والتنقل من بلد إلى بلد، لا يستقر به مقام حتى يهجره إلى آخر، وجاب الآفاق، وسمعت أخباره في بخارى، وبغداد، والري، وشيراز، وبلاد الصين، والترك، والهند، وتردد على بلاط البويهيين في إيران والسامانيين في خراسان، وقربه أميرهم نصر بن أحمد الساماني، وشمله برعايته ويسر له السفر إلى الصين سنة 321هــ، وقد رآه ابن النديم صاحب "الفهرست" نحو سنة 377هــ وعرفه بالجوالة، ومن شعر أبي دلف واصفا ترحاله:
إلا إني حلبت الدهر من شطر إلى شطر وجبت الأرض حتى صرت في التطواف كالخضر
عمر أبو دلف حتى تجاوز التسعين من عمره ومات تقريبا سنة 390هــ. وتذكر المصادر أنه كان شاعرا، طبيبا، رحالة، كيميائيا، عالما بالنباتات والمعادن والحجارة، أما شعره فضاع أغلبه ولم يصلنا سوى القليل منه، منها القصيدة الساسانية التي أوردها الثعالبي مشروحة في "يتيمة الدهر" وتهدف هذه القصيدة إلى تنبيه المجتمع إلى حيل المتسولين وتعرف بطرائقهم، وتحلل لغتهم الرمزية والاصطلاحية، تلك اللغة التي ضمت مزيجا من المفردات العربية والفارسية والسريانية والهندية وغيرها، كما يقول الأستاذ أحمد الحسين، وقد احتوت هذه القصيدة على مجموعة كبيرة من الألفاظ العامية غير القاموسية، مما كان في عامية العصر العباسي. وساسان هو الأب الروحي للمتسولين والمشردين أو كما في "دائرة المعارف الإسلامية"، "ساسان ولي جميع المتشردين أو أبناء السبيل كالمشعوذين والسائلين والحواة ومنهم أيضا الغجر، ويدخل في زمرتهم أيضا أنواع المحتالين جميعا، وتسمى فنونهم وحيلهم علم ساسان".
ويصف أبو دلف في بداية قصيدته كثرة رحلاته وأسفاره، وألذ ما وجده في حياته، ثم يصف طرائق المتسولين وحيلهم، كإظهار الجنون، أو بلع اللسان وكأن الأعداء الروم قطعوه في الحرب، ومن يطلي نفسه بالقار ويسود وجهه، ومن يعقر نفسه بالموسى، وبعض حيل المتطببين والمشعوذين والدجالين والمتزيين بزي الرهبان والحجاج، ومن ينظرون في الفأل والزجر والنجوم، ومن يكتبون التعاويذ، ومن يدعون تعبير الرؤى والأحلام، والمتكسبين بالشعر، وعادة التكسب بالشعر عادة قديمة تعود إلى العصر الجاهلي، إذ يذكر ابن رشيق القيرواني في "العمدة" أن أول من استجدى بشعره وجعله صنعة يتكسب بها هو الأعشى، أبو بصير ميمون بن قيس. وهذه الطرق والحيل التي أوردها أبو دلف في قصيدته ما زالت مستخدمة عند المتسولين إلى يومنا هذا، ومن أبيات هذه القصيدة يقول:
ومنا كل زمكدان
غدا محدودب الظهر (1)
ومنا كل مطراش
من المكلوذة البتر(2)
ومنا كل قناء
على الإنجيل والذكر (3)
ومنا كل مستعش
من النعارة الكدر (4)
ومنا قافة الرزق
وأهل الفأل والزجر (5)
ومن يعمل بالزيج
وبالتنور والجفر(6)
وشرح الأبيات السابقة كما عند الثعالبي كالآتي:
1 – الذي يتظاهر بالحدب.
2 – من يبتر يده ليستجدي الناس بها.
3 – القناء، الذي يقرأ التوراة والإنجيل ويوهم أنه كان يهوديا أو نصرانيا فأسلم.
4 – مستعش، قوم يدورون على أبواب الدور فيما بين العشاءين ويقولون، رحم الله من عشى، وينعرون بذلك حتى يأخذوا من كل دار كسرة طعام ويرجعوا بها.
5 – قافة الرزق، قوم يتعاطون التنجيم.
6 – الجفر، الذي يكون بين أيديهم على هيئة الفلك يدور، أو كما يفعله بعض الدجاجلة حين يمسكون البلورة.
رحلته إلى الصين
أبو دلف شخصية دقيقة الملاحظة، لا يترك شيئا مهما يفوته، وسجل لنا في رحلته مشاهدات كثيرة في غاية الأهمية، من تسمية للمواقع والأماكن، ووصف لأحوال السكان وأديانهم وعاداتهم، بل حتى هيئة مساكنهم وملابسهم وأطعمتهم ووصف للقلاع والمباني والآثار والقناطر والجسور، والصناعات والزراعات والأنهار والبحيرات والسدود، وسجل معلومة نادرة تفيد أن تبعا ملك اليمن غزا بلاد الصين، ويذكر أبو دلف أنه شاهد سلالتهم قد استوطنوا منطقة القلبيب، وأنهم يتكلمون بالعربية، ويكتبون بالحميرية (الخط المسند) وأنهم لا يعرفون طريقة كتابتنا. كما يتحدث عن بعض القبائل الصينية ومعتقداتها وعاداتها وأساطيرها وطلاسمها، فمنها من تعبد الأصنام، وتعظم البقر، ومنهم من يقدسون زحل والزهرة. ويذكر لنا لأن لبعض هذه القبائل حجارة تسرج بالليل، يستغنون بها عن المصباح ولا تعمل في غير بلادهم، أو حجارة يعتبرونها مغناطيس المطر يستمطرون بها متى شاؤوا. ويذكر أبو دلف في رسالته الثانية أن حشيشة في الران تضحك من تكون معه، حتى يخرج به الضحك إلى الرعونة وإن سقطت منه أو شيء منها اعتراه حزن لذلك فبكى، وعن مدينة بسطام يقول من دخلها وفي قلبه هوى وشرب من مائها زال العشق عنه.
شيطان جبل دباوند
يذكر رحالتنا في رسالته كثيرا من الخرافات التي يعتقدها سكان الصين أو المناطق التي زارها، وأحيانا يعقب على ذلك وينتقد ويقدم تحليلا علميا، وتفسيرا لهذه الخرافة، وأحيانا يوردها دون تعقيب، وربما اقتنع في أحيان نادرة ببعض هذه الخرافات، إلا أنه بشكل عام ينتهج منهجا عقلانيا سليما، ولا يدع هذه المرويات تمر مرور الكرام دون أن يخضعها لمحك التجربة والاختبار. من ذلك ما زعمته العامة عن شيطان جبل دباوند، وما نسجوا حوله من قصص غريبة عجيبة وحكايات خرافية، وأنه مارد مقيد تومض عيناه نارا ويعلو نفسه كالدخان، ويدوي صوته كالرعد. هذه الخرافات التي سمعها أبو دلف عن هذا الشيطان المارد أشغلت باله كثيرا فقرر أن يغامر ويذهب بنفسه إلى مكان هذا المارد في الجبل ويكتشف الحقيقة، يقول أبو دلف، "فاعتبرت ذلك وارتصدته ولزمت به المكان وصعدت في الجبل حتى وصلت إلى نصفه بمشقة شديدة ومخاطرة بالنفس، وما أظن أن أحدا تجاوز الموضع الذي بلغت إليه، بل ما وصل إليه إنسان فيما أظن، وتأملت الجبال فرأيت عينا كبيرة، وحولها كبريت مستحجر، فإذا طلعت الشمس والتهبت فظهرت فيه نار، وإلى جانبه مجرى يمر تحت الجبل تخترقه رياح مختلفة فتحدث بينها أصوات متضادة على إيقاعات متناسبة، فمرة مثل صهيل الخيل، ومرة مثل نهيق الحمير، ومرة مثل كلام الناس، ويظهر للمصغي إليها مثل الكلام الجهوري دون المفهوم، وفوق المجهول، يتخيل السامع أنه كلام بدوي ولغة أنسي، وذلك الدخان الذي يزعمون أنه نفسه بخار تلك العين الكبريتية، وهذه حال يحتمل على ظاهر هذه الصورة ما تدعيه العامة".
ومن معتقدات جبل دباوند يقول أبو دلف، "إذا نظر أهل هذه الناحية إلى النمل تذخر الحب، وتكثر من ذلك علموا إنها سنة قحط وجدب، وإذا دامت عليهم الأمطار وتأذوا بها، وأرادوا قطعها صبوا لبن المعز على النار فانقطعت، وقد امتحنت هذا من دعواهم دفعات فوجدتهم صادقين. وما رأى أحد رأس هذا الجبل في وقت من الأوقات منحسرا عنه الثلج إلا وقعت الفتنة، وهريقت الدماء من الجهة التي تراها منحسرة، وهذه العلامة أيضا صحيحة بإجماع أهل البلد".
وتصديق أبي دلف لمثل هذه الخرافات من هفواته، ومن ذلك أيضا حديثه عن عين الدم، وعن ماء أصفهان، حيث يقول، "وهناك قرية تعرف بقرية الجمالين فيها عين تنبع دما لا يشك فيه لأنه جامع لأوصاف الدم كلها".