الاعتماد الأكاديمي .. نظرة أولية
ليس تعبير "الاعتماد الأكاديمي" Academic Accreditation تعبيرا جديدا في قاموس مصطلحات التعليم العالي؛ لكنه اكتسب في المملكة أهمية متزايدة وغير مسبوقة ابتداء من عام 2004، مع إنشاء "الهيئة الوطنية للتقييم والاعتماد الأكاديمي NCAAA". وهي، طبقا لموقعها على الإنترنت، هيئة تتمتع بالاستقلال، وتهتم بالعمل على تطوير "جودة التعليم ما بعد الثانوي" في المملكة، في جميع المجالات المعرفية، باستثناء مجال الدفاع الذي يرتبط بجهات مسؤولة أخرى. ولهذه الهيئة ما يماثلها في بعض الدول الأخرى، بل إن هناك هيئات تعمل في مجال "الاعتماد الأكاديمي" ليس على مستوى مؤسسات التعليم العالي في دولة بعينها فقط، بل على مستوى هذه المؤسسات في العالم بأسره. وغاية هذا المقال هي إلقاء الضوء على هذا الأمر المهم للتعريف بجوانبه المختلفة.
تعود جذور كلمة "اعتماد" Accreditation بلفظها الإنجليزي إلى كلمة باللغة اللاتينية، "لغة روما القديمة"، هي كلمة Credito، ومعناها "الثقة". أي أن الاعتماد هو "منح الثقة" بالموضوع المطروح. وعندما يكون هناك اعتماد، فهناك جهة "معتَمِدة" تتمتع بصلاحيات منح الثقة؛ وهناك أيضا جهة تطلب "الاعتماد" كي تحصل على هذه الثقة. وبالطبع لا بد أن تكون للجهة "المعتَمِدة" "معايير للاعتماد" تعمل على التأكد من وجودها في الجهة "الطالبة للاعتماد"؛ ولا بد أن تكون لها أيضا "شرعية الاعتماد" التي قد تأتيها من خلال تشريعات تصدرها سلطات عليا مسؤولة، أو ربما عبر جدارة تكتسبها من "سمعة" الشخصيات المشاركة فيها وخبرتها السابقة.
ولا يقتصر مبدأ "الاعتماد" على المجال الأكاديمي، بل ينتشر في مختلف مجالات الحياة، حيث الحاجة إلى "الثقة" قائمة فيها جميعا. ففي المجال المالي، هناك "الشيك المعتمد" الذي تعطيه المصارف لعملائها لتوثيق وجود مبالغ محددة في حساباتهم لدى الجهات التي ستدفع لها هذه المبالغ. وهناك في مجال وثائق القضايا الشخصية والأعمال التجارية حاجة إلى "اعتماد" الجهات الحكومية ذات العلاقة بهذه الوثائق، من أجل "توثيق" ما فيها من حقائق وحقوق، وضمانها من قبل سلطة الدولة القائمة على رعاية شؤون المجتمع.
ولعله يمكن النظر إلى "الاعتماد الأكاديمي" من جانبين: جانب اعتماد المؤسسة الأكاديمية "للدرجة العلمية" التي تمنحها لخريجيها، "توثيقا" لإتمامهم الدراسة في برامجها المختلفة بنجاح؛ ثم جانب اعتماد "الهيئات المسؤولة" عن الاعتماد "للمؤسسة" الأكاديمية ذاتها، وفقا لمعايير وضوابط محددة. وبين هذين الجانبين ارتباط كبير، فحصول الدارسين على درجاتهم من مؤسسات أكاديمية معتمدة يعزز "الثقة" بالتأهيل الذي قدمته هذه المؤسسات. ومن المفيد هنا أن نذكر أن الثقة بالمؤسسات الأكاديمية لا تأتي فقط من خلال اعتمادها من قبل الهيئات المتخصصة بذلك، بل تأتي أيضا من "سمعة" المؤسسة التي تبنى عبر الزمن. وتعتمد هذه السمعة بشكل رئيس على منجزات المتخرجين فيها، وعطائهم في "سوق العمل"، خصوصا مقارنة بأقرانهم من المتخرجين في مؤسسات أكاديمية أخرى. وربما تعتمد هذه الثقة أيضا على موقع المؤسسة في معايير التصنيفات الدولية المختلفة.
وينظر عادة إلى مصطلح، "الاعتماد الأكاديمي"، على المستوى الدولي، على أنه يتضمن جانب اعتماد "المؤسسة" الأكاديمية من قبل هيئات الاعتماد المتخصصة. في هذا الإطار، هناك تقرير، حول التعريف بالاعتماد الأكاديمي، صدر عام 2004 عن "المعهد الدولي للتخطيط للتعليم IIEP"، التابع "لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: يونسكو UNESCO"، وتم تحديثه عام 2007. ويحدد التقرير الخصائص الرئيسة والخطوات اللازمة، لتنفيذ التقييم المطلوب لحصول المؤسسات الأكاديمية على"الاعتماد الأكاديمي".
تشمل "خصائص الاعتماد الأكاديمي" التي أوردها التقرير ضرورة أن تتمتع الهيئة القائمة على التقييم والاعتماد "بالاستقلالية"، كي يكون التقييم موضوعيا وبعيدا عن أي نفوذ، ربما يفسد "الثقة" التي يفترض أن يقدمها. وتتضمن هذه الخصائص أيضا أن يتم الاعتماد "لفترة زمنية محددة"، وليس بشكل دائم، كي يتم التأكد دوريا من سلامة "الثقة" التي يمنحها الاعتماد. ثم هناك بين الخصائص الحاجة إلى "قرار حاسم" بشأن التقييم؛ أي أن تكون نتيجة أي تقييم ثنائية، إما "منح" الاعتماد أو "رفضه". ولعل من أهم خصائص الاعتماد، إضافة إلى ما سبق، خاصية تقسيمه إلى قسمين رئيسين, قسم يعطي "تقييما واعتمادا عاما للمؤسسة" يشمل معايير تقييم محددة؛ وقسم يقدم "تقييما واعتمادا خاصا" يركز على معايير تفصيلية محددة للبرامج الأكاديمية المختلفة التي تقدمها المؤسسة.
وقد أوصى تقرير اليونسكو سابق الذكر أن يكون "للاعتماد الأكاديمي" ثلاث خطوات رئيسة. تتضمن الخطوة الأولى إجراء "تقييم ذاتي" للمؤسسة وبرامجها الأكاديمية من قبل مجموعات عمل من منسوبي المؤسسة من أكاديميين وإداريين، على أن يجري هذا التقييم من خلال أدلة محددة، على أساس "معايير التقييم" التي تحددها "هيئة التقييم"، وعلى أن يتم أيضا إعداد تقرير بذلك. أما الخطوة الثانية فتشمل قيام هيئة التقييم بتشكيل "فريق من المختصين" يقوم بزيارة المؤسسة، ويعمل على التحقق من حالتها، من خلال الاطلاع المباشر، وعبر إجراء مقابلات مع منسوبي المؤسسة؛ وعلى الفريق أن يقدم تقريرا عن عمله للمؤسسة معززا بتوصيات محددة. تأتي بعد ذلك الخطوة الثالثة، التي تقوم بها "لجنة فحص" النتائج التي تم التوصل إليها، وتقديم توصية نهائية بشأن الاعتماد الأكاديمي، وإصدار "هيئة الاعتماد" قرارا بشأنه.
لعلنا نجد، بعد ما تقدم حول "الاعتماد الأكاديمي" ومرئيات تقرير "اليونسكو" بشأن خصائصه وإجراءاته، أن "معايير التقييم" هي جوهر هذا الاعتماد، لأنها تعطي الأسس التي تبنى عليها "الثقة" بالمؤسسة الأكاديمية المطروحة للتقييم. ويمكن النظر إلى هذه المعايير على أن لها ثلاثة محاور رئيسة: محور عام يختص "بالمتطلبات الأكاديمية المشتركة" على مستوى العالم؛ ومحور آخر يهتم "بالاستجابة للمتطلبات الخاصة" للمجتمع المحلي؛ ثم محور ثالث يركز على "كفاءة عمل المؤسسة وفاعليته". يضاف إلى ذلك الحاجة إلى تقييم أثر تنفيذ "الاعتماد الأكاديمي" في عطاء المؤسسات الأكاديمية. وإذا كان هذا المقال قد طرح الإطار العام للموضوع، فلعلنا نعود في مقالات قادمة إلى ما يجري بشأنه على أرض الواقع.