وقفات مع مسودة مشروع الجامعات «1»
في البداية أتقدم بالشكر لوزير التعليم الدكتور أحمد العيسى على فتح باب النقد لمسودة مشروع نظام الجامعات، ولا شك أن هذه البادرة من الوزير تدل على حرصه على ألا يتم اعتماد مشروع الجامعات إلا وقد خضع لدراسة مستفيضة وتم تناول مسودة المشروع من جميع أبعادها. ولا شك أن تأني الوزير وطلب الملاحظات على مسودة المشروع يعود لقناعته أن مشروع نظام الجامعات سينعكس على مستقبل التعليم الجامعي، لذا لابد من بلورته بعمق. سأركز على النقاط التي ستسهم في تقويم النظام بشكل مباشر، ولعلي في هذا المقال أكتفي بذكر أولى هذه الوقفات.
الوقفة الأولى: المادة الأولى من مشروع نظام الجامعات تنص على "الجامعات مؤسسات عامة غير هادفة للربح"، لذا يبقى السؤال هل تحول الجامعات إلى مؤسسات عامة غير ربحية سيزيد من فعاليتها؟
الأدبيات العلمية تخبرنا أن المنشآت ـــ بما فيها الجامعات ـــ يمكن تقسيم اعتمادها على الميزانيات الحكومية إلى أربعة مستويات:
1. Budgetary organization وهو النوع التقليدي المتبع حاليا لدى وزاراتنا الحكومية بما فيها الجامعات. ويتميز هذا النوع من التنظيم بتحكم الحكومة في آلية صرف الميزانيات والمشتريات وخلافه، وإن اختلفت الجامعات عن غيرها من الوزارات الأخرى باستقلالية قراراتها في تعيين أعضاء هيئة التدريس بمن فيهم المعيدون والمحاضرون. كما يركز هذا النوع من التنظيم على مدخلات الميزانية التي تقدم على هيئة بنود، لكن يعاب على هذا التنظيم قلة إنتاجيته، وضعف كفاءته، وعدم مرونته.
2. Autonomizedorganization ظهر هذا النوع من التنظيم بسبب عدم الرضى عن نمط الميزانيات المذكورة سابقا Budgetary organization، ويعتبر ِAutonomized organization "أي منشأة ذاتية التشغيل" أحد الخيارات البديلة، وإن كان العمل بهذا النوع ليس حديثا بل لا تزال بعض الجامعات تنتهج هذا النوع من التنظيم. يتيح هذا التنظيم لميزانيات المنشآت ـــ بما في ذلك الجامعات ـــ أن تتحرر بشكل جزئي من التحكم المفروض عليها في آليات الصرف المالية المذكورة في نظام الميزانيات التقليدي. لكن يتميز نمط التشغيل الذاتي بأنه يتيح للمنشأة الحصول على موارد مالية خارج الميزانية الحكومية لزيادة دعم الميزانية المقررة سنويا.
ويعتمد هذا النوع من التنظيم الذي يطلق عليه اصطلاحا making mangers manage على تحول التحكم وتقليل الاعتماد على الميزانية الحكومية بشكل جزئي وكذلك تخفيف تدخل الجهات الحكومية في صناعة القرار. كما يتميز هذا النوع من التنظيم بزيادة الاحتفاظ بالموارد المكتسبة للمنشأة وذلك عبر التحول من نظم الميزانية المبنية على البنود line item budget إلى التحول نحو ميزانية global budget وهو نوع يتيح للمنشأة حرية التنقل بين البنود بشكل أكبر. فما يتم توفيره من بند يمكن تحويله للبند الآخر، لكن ما زال التسلسل الإداري الهرمي في هذا النوع من التنظيم مثل النوع السابق.
الأدبيات العلمية تخبرنا أيضا أن هذا النوع من الميزانيات لا يحقق كل الأهداف المتوقعة منه لعدة أسباب منها ضعف القيادات في المنشآت وعدم قدرتها على التكيف مع أهداف ومتطلبات التنظيم الجديد.
3. Corporatized organization "يعرف بنظام الشركات" وهو تنظيم مستقل ذاتيا والتحكم في الميزانيات لهذا النمط أعلى من النموذجين السابقين، ويتميز باستقلالية الملكية واستقلالية في الميزانيات والمدفوعات والتنظيم، لكن لا تزال ملكية المنشأة حكومية ومجلس الإدارة مسؤول عن تقييم أدائها. وتكمن خطورته في أن ضعف القيادات في نظام الشركات قد يتسبب في خسائر مالية عالية بدلا من أن يسهم في رفع كفاءة أداء المنشأة.
4.privatized organization وهو تحول ملكية المنشأة إلى القطاع الخاص سواء كان بصيغة ربحية أو غير ربحية. يتميز هذا التنظيم بعدم تدخل الحكومة المباشر في أي نشاط من أنشطة المنشأة. ومن أهم محفزات الأداء في هذا النمط تحقيق الربحية وإن كانت المنشأة غير ربحية "لأنه حتى المنشأة غبر الربحية مطالبة بتحقيق أرباح محدودة بما لا يتجاوز 5 في المائة لضمان استمراريتها في أداء رسالتها".
التنظيم الحالي للجامعات أقرب للمستوى الثاني Autonomized organization ويسعى لأن ينتقل للنوع الثالث Corporatized organization.
على المستوى الوطني، تحويل المنشآت العامة ليست تجربة حديثة فهناك تجارب سابقة. فمثلا مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث تم تحويله إلى مؤسسة عامة عام 1422هـ وتم تشكيل أول مجلس إدارة له عام 1426هـ على الرغم من أن تحويله أتاح للمستشفى عديدا من الصلاحيات كفتح فروع والاستثمار وخلافة، لكن أداء المستشفى بعد تحويله لمؤسسة عامة كان أقل مما كان عليه قبل تحويله، بل تضخم أعداد الموظفين بصورة فلكية بعد أن تحول لمؤسسة عامة. لذا فالمستشفى حاليا يتجه نحو الخصخصة بسبب أن تنظيمه الحالي لم يحقق التطور الذي يطمح له المستشفى.
لذا فتحويل المنشات الحكومية لمؤسسات عامة ليس ضمانة بذاتها لرفعة إنتاجيتها وتعزيز استقلاليتها، لأن المهم وجود آليات عملية ومعايير حقيقية تضمن أن تنفذ لوائح مسودة النظام بصورة حقيقية، وتحقق التكامل في بنود التنظيم تحقيقا لما يعرف عليه check & balance وتطبيق الحوكمة بصورة شاملة. فمثلا بعد أن أصبح مستشفى الملك فيصل التخصصي مؤسسة عامة لم يتم تحقيق الحوكمة بصورة صحيحة.
كما أن تحويل الجامعات إلى مؤسسات عامة وتحويل منسوبيها من المؤسسة العامة للتقاعد إلى المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية قد يتسبب في إحداث اهتزاز للملاءة المالية للمؤسسة العامة للتقاعد وخصوصا أن أعداد منسوبي وزارة التعليم يشكلون الشريحة الأكبر من مجمل موظفي الدولة ما قد يشكل تحديا لدى مؤسسة التقاعد في الوفاء بالتزاماتها نحو المتقاعدين مستقبلا.
ما يجعلنا نتفاءل الموافقة الملكية التي صدرت أخيرا بخصوص الموافقة على لجان الإشراف على الخصخصة عبر المركز الوطني للتخصيص. هذه اللجان من المتوقع أن تسهم في مراجعة الجهات التي سيتم خصخصتها بما في ذلك وزارة التعليم. لذا فمن المنتظر أن يتم إعادة صياغة بعض بنود مشروع نظام الجامعات للتأكد من تكاملها مع بقية البرامج المرتبطة بتحقيق "رؤية المملكة 2030".
لكن يبقى السؤال قائما: هل التحويل لمؤسسات عامة سيحقق للجامعات أداء أفضل؟ وهل سيتم النظر لانعكاس تحويلها إلى مؤسسات عامة على مختلفة الجوانب التنظيمية والمالية والقانونية والهيكلية وخلافه؟
وللحديث بقية.