حرق الكتب والمكتبات .. تواريخ في تدمير المعرفة
قبل أكثر من سنة نشرت في هذه الصفحة مقالة بعنوان "تاريخ ابن قاسم، وأعيان تميم للجاسر، مخطوطتان مفقودتان". والمخطوطة الأولى من تأليف الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، وهو عالم نجدي فاضل شهير، ولد رحمه الله سنة 1312هـ في بلدة البير المعروفة التي تقع شمال غرب مدينة الرياض، وتوفي عام 1392هـ. أما الثانية فمن تأليف العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر "1313- 1401هـ"، وهو من تلاميذ المؤرخ النسابة الشهير إبراهيم بن صالح بن عيسى، وعنوانها "تحفة الأحباب في أعيان تميم والرباب". ويقال إن هاتين المخطوطتين قد أحرقتا أو أتلفتا، وقيل أخفيتا، وقد ذكر الزركلي أن ابن قاسم أحرق كثيرا من أوراقه.
وقبل أسابيع أخذت أبحث عن قصص مشابهة في تراثنا العربي لأدرس الموضوع، وأكتب عنه، وما إن شرعت في البحث حتى سررت بالاطلاع على كتابين رائعين لمؤلفين سعوديين في الموضوع ذاته. الأول بعنوان "حرق الكتب في التراث العربي" لناصر الحزيمي، وهو بحث رائد في مجاله، صدر عام 2002م، ويقع في 144 صفحة. والآخر بعنوان "حرق الكتب، تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات"، للدكتور خالد السعيد، وهو يتناول مدة زمنية أطول تستمر إلى وقت تأليف الكتاب، ويقع في 263 صفحة. ويشكر لمؤلفه الدكتور السعيد أنه لم يغمط حق الحزيمي الذي سبقه إلى هذه الفكرة بأزيد من 15 عاما، فأشار إلى ريادته وأثنى على عمله، وعد السعيد كتابه امتدادا وإضافة إلى ما كتبه الحزيمي. وسأعرض في هذه المقالة لبعض المواضيع التي وردت في الكتابين مع إضافات من مصادر أخرى.
أسباب حرق الكتب وإتلافها
استقصى الحزيمي أسباب إتلاف الكتب، ورأى أنها ترجع إلى ستة أسباب: شرعية، وعلمية، وسياسية، واجتماعية قبلية، ونفسية، وتعصبية، وأورد أمثلة على كل سبب منها. ويقول السعيد إن أبرز أسباب إتلاف الكتب شعور مؤلفيها "بالإحباط من مجتمعاتهم التي تجاهلتهم وربما حاربتهم ولم تمنحهم ما يستحقون من التقدير المعنوي والمادي. وهناك كتب يتعذر حصرها قامت السلطة السياسية أو الدينية، وفي أغلب الأحيان كلتاهما معا، بملاحقتها وإتلافها أينما وجدت، لما فيها من أفكار تناهض الحاكم وتؤلب العامة عليه، أو أفكار تخالف السائد من المعتقدات الدينية بين الناس".
أما عن الأسباب القبلية فيقول جمال الدين القفطي في كتابه "إنباه الرواة" عند حديثه عن كتاب "الإكليل" الذي ألفه عالم اليمن الشهير الحسن بن أحمد الهمداني (ت 336هـ)، الملقب بلسان اليمن: "وكتابه في معارف اليمن وعجائبه وعجائب أهله، المسمى "الإكليل"، وهو عشرة أجزاء .. وهو كتاب جليل جميل، عزيز الوجود، لم أر منه إلا أجزاء متفرقة وصلت إليّ من اليمن .. وقيل: إن هذا الكتاب يتعذر وجوده تاما، لأن المثالب المذكورة فيه، في بعض قبائل اليمن، فأعدم أهل كل قبيلة ما وجدوه من الكتاب، وتتبعوا إعدام النسخ منه، فحصل نقصه لهذا السبب".
أما طرق إتلاف الكتب فقد تعددت كما يذكر الحزيمي؛ بالحرق، والدفن، وبالإغراق والغسل بالماء، والتقطيع والتخريق.
مأساة التوحيدي
عاش أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري، وهو باقعة من بواقع العلم والمعرفة، قال عنه ياقوت الحموي: "كان متفننا في جميع العلوم من النحو واللغة والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظيا يسلك في تصانيفه مسلكه، ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، حاد اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شأنه، والثلب دكانه. وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدودا محارفا يتشكى صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه".
تعد حادثة إحراق أبي حيان التوحيدي لكتبه إحدى أشهر حوادث إتلاف المؤلفين لكتبهم في التراث العربي، والسبب الذي دفعه إلى ذلك هو الحرمان والإهمال والبؤس والفقر الذي عاش فيه أبو حيان طوال الأعوام العشرين الأخيرة من حياته، فأحرق كتبه ضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. وذكر جلال الدين السيوطي، أن أبا حيان لما انقلبت به الأيام رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها، فجمعها وأحرقها، فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق.
يعد كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي المصدر الرئيس لهذه الرواية، وقد ذكر أن القاضي أبا سهل علي بن محمد، وهو صديق لأبي حيان بعث إليه رسالة يلومه على هذه الفعلة، وأورد الرسالة، كما أورد رد أبي حيان عليها الذي يبرر فيها أسباب حرق كتبه، ومن ضمنها يقول موردا بعض من سبقوه في حرق وإتلاف كتبهم: "لي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفا. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار". ويصنف فعل التوحيدي هذا في إحراق كتبه ضمن الأسباب النفسية.
الاختلافات الدينية والمذهبية
يتفق المؤلفان على أن الاختلافات الدينية والمذهبية كانت سببا رئيسا في إتلاف الكتب، والقصص والأخبار المذكورة في كتب التراث حول ذلك أكثر من أن تحصى، وبعضها مؤلم ومحزن. وقد قامت السلطة السياسية، والسلطة الدينية بدور كبير في هذا الإتلاف، على أن بعض العلماء والمنسوبين إليهم وأتباعهم من العوام كان لهم نصيب وافر من ذلك. والحديث في ذلك طويل ومتشعب، والإنصاف فيه عزيز، فالأغلب يميل إلى ملته ومذهبه، ويدافع عما فعله أهلها.
أحد الأمثلة المؤلمة التي حدثت بين المسلمين أنفسهم ما وقع للعالم الشهير ابن حزم الأندلسي، وكان يتبع المذهب الظاهري، وهو من مذاهب أهل السنة، بينما يتبع أغلبية أهل الأندلس مذهبا آخر، فألبوا عليه ووشوا به حتى أحرقت بعض كتبه، فقال ابن حزم قصيدة حزينة منها:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
ويدخل ما حدث لابن حزم الأندلسي ضمن الأسباب التعصبية، فالذي دفع خصومهم إلى الوشاية به هو التعصب المذهبي.
الدولة العثمانية
حاربت الدولة العثمانية الكتاب حربا شعواء ولا سيما في ثلاثة مجالات، الأول: الكتب التي تتحدث عن مفاخر العرب، ودورهم في نشر الدين والحضارة العربية الإسلامية. بل وصل الأمر ببعض كتابهم أن يدعي أن الرسول محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي العربي عليه الصلاة والسلام تركي الأصل وليس عربيا والعياذ بالله. والثاني: الكتب التي تدعو إلى توحيد الله، وتنبذ الخرافات والشركيات وعبادة القبور. والثالث: الكتب التي تنتقد استبداد الدولة العثمانية، وظلم إدارتها وسلاطينها، وسلب خيرات الدول والشعوب العربية. وقد حاربت الدولة العثمانية على مدى تاريخها كل الكتب التي تتحدث عن هذه المواضيع، وأحرقتها أو أتلفتها، كما سجنت أو طاردت مؤلفيها وناشريها، وأصدرت أحكاما بإعدام بعضهم وسجن البعض الآخر. وقائمة الأسماء في هذا المجال تطول، وتشمل أغلب الدول العربية إن لم يكن كلها، وعلى سبيل المثال علامة الشام محمد كرد علي الذي حاولوا قتله، وأصدروا بحقه حكما بالسجن والإبعاد بسبب الآراء الإصلاحية التي طرحها، وعبدالرحمن الكواكبي الذي طلبوا رأسه بسبب كتابه "طبائع الاستبداد"، والمؤرخ النجدي عبدالله المغيرة الذي صدر بحقه حكم بالسجن بسبب توزيعه كتاب "طبائع الاستبداد"، والأديب المصري إبراهيم المويلحي الذي حاربوا وصادروا كتابه "ما هنالك" بسبب نقده ظلم العثمانيين، وعلامة العراق الكبير محمود شكري الآلوسي بسبب كتبه التي تدعو إلى التوحيد الخالص، وبسبب كتابه "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب"، كما حاربوا كتب علامة الهند صديق حسن خان لأنها تدعو إلى التوحيد وتنبذ الشركيات، وأحرقوها. ويحتاج استقصاء أسماء المؤلفين والكتب التي حاربتها الدولة العثمانية إلى كتاب مستقل. ويرى كثير من المؤرخين والمحللين أن أهم أسباب تخلف العرب والمسلمين هو محاربة الدولة العثمانية للكتاب والعقل والاجتهاد.
الصليبيون والمغول
على أني أتعجب من حديث بعض الباحثين عما فعله المسلمون، بينما يتجاهلون ما فعله غيرهم من الملل الأخرى بكتب العرب والمسلمين حين سيطروا على ديارهم. وقد انتبه خالد السعيد لذلك فكتب فصلا عن كتب المسلمين في الأندلس، وعد الجرائم التي ارتكبها المسيحيون بحق المسلمين، بقيادة الملك فرديناند وزوجته الملكة إيزابيلا، ما عرف باسم محاكم التفتيش، ومن ضمن هذه الجرائم البشعة التي ارتكبوها بعد سقوط الأندلس إحراق كتب العرب والمسلمين، فأحرق في يوم واحد مليون كتاب عربي في ساحة باب الرملة. وقد ضج بالشكوى شاعر أندلسي مسلم فكتب قصيدة طويلة يشكو فيها ما حدث، ويستنصر بالمسلمين، وكان مما قال:
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف
وخلطها بالزبل أو بالنجاسة
وكل كتاب كان في أمر ديننا
ففي النار ألقوه بهزء وحقرة
ولم يتركوا فيها كتابا لمسلم
ولا مصحفا يخلى به للقراءة
إضافة إلى ذلك: فقد نقل عن المؤرخ الإسباني دربلس أن ما أحرقه الإسبان من كتب الأندلس مليون و500 ألف مجلد، كلها عربية. وفي كتاب "صناجة الطرب في مقدمات العرب" أن الكاردينال الإسباني المسمى شيمنز أمر بحرق 80 ألف كتاب في ساحة مدينة غرناطة بعد ظهورهم عليها سنة (898 هـ). وفي كتاب "وفيات الأسلاف وتحية الأخلاف" أن أسقف طليطلة وحده أحرق من الكتب الإسلامية العالية ما ينيف على 80 ألف كتاب. وقد فعل الصليبيون شيئا من ذلك عندما احتلوا بعض الديار العربية؛ وقد أورد العلامة محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام" واحدة من هذه المصائب فقال: "ومن أهم النكبات التي أصيبت بها الكتب: نكبة طرابلس لما فتحها الصليبيون، وإحراق صنجيل أحد أمرائهم كتب دار العلم فيها، وأخذ الصليبيون بعض ما طالته أيديهم من دفاترها، وكتب خاصة في بيوتهم، واختلفت الروايات في عدد المجلدات التي كانت في خزانة بني عمار أو دار حكمتهم في طرابلس، وعلى أصح الروايات أنها ما كانت تقل عن 100 ألف مجلد، وأوصلها بعضهم إلى ألف ألف، وبعضهم إلى أكثر".
أما ما فعله المغول التتر في كتب العرب والمسلمين عندما استولوا على ديارهم، فقد أورد خالد السعيد تفاصيل حرقهم وإغراقهم لكتب بيت الحكمة في بغداد عام 656هـ، وهي أكبر مكتبة في العالم، ويدل الوصف على كثرة الكتب التي رميت وأغرقت في نهر دجلة حتى قال البعض إنه سد مجراه، واسود لونه من مداد (حبر) الكتب. ولم يحدث الأمر في بغداد فقط، بل في مدن أخرى؛ فحينما تحدث ياقوت الحموي عن مدينة ساوه قال: "مدينة حسنة بين الري وهمذان، سنية شافعية، فجاءها التتر الكفار الترك، فخبرت أنهم خربوها وقتلوا كل من فيها، ولم يتركوا أحدا البتة، وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها، بلغني أنهم أحرقوها".
يضيف خالد السعيد مبحثا ليس في نطاق بحث الحزيمي المختص بالتراث العربي، وهذا المبحث بعنوان "حرق المكتبات عند غير المسلمين"، ويورد فيه 27 مكتبة كبيرة وعامة تم حرقها من قبل الأمم وأهل الأديان الأخرى، كما يتحدث عما عاناه علماء الأمم والأديان الأخرى من مضايقات سلطتهم السياسية والدينية، وما جرى على كتبهم من حرق وإتلاف.
يتبين لكل من درس تاريخ الكتب أن العرب كانوا أحرص الأمم عليها وعلى تأليفها وجمعها وعلى تأسيس المكتبات، وفتحها لسائر الناس كي يستفيدوا منهم. كما يتبين أن الصليبيين والمغول والعثمانيين قد حاربوا الكتاب العربي حربا لا هوادة فيها، وكل هذا من حماقتهم، فالخسارة ليست على العرب وحدهم بل هي عامة تشمل الإنسانية، فالمعرفة لا تقتصر على أمة بعينها، بل تشمل البشر جميعا. كما يتبين أن بعض الأسباب السابقة التي أدت إلى إتلاف الكتب لا تزال قائمة حتى اليوم، ولذلك نسمع بين يوم وآخر عن عالم أو كاتب أو سياسي قام بإتلاف كتابه أو مذكراته.
كتب تحترق
عثرت على كتاب ثالث في الموضوع نفسه بعدما أنهيت كتابة هذه المقالة، وعنوانه "كتب تحترق، تاريخ تدمير المكتبات" من تأليف الكاتب الفرنسي لوسيان بولاسترون، وصدر بالفرنسية في باريس عام 2004، وترجمه إلى العربية هاشم صالح، ومحمد مخلوف، وصدرت طبعته العربية الأولى عام 2010. ويقع الكتاب في 463 صفحة. ولم يسعفني الوقت لقراءة الكتاب، لكن الناشر يذكر أن هذا الكتاب يسطر تاريخ العمليات الكبرى لتدمير المكتبات منذ الصين في عهد سلالة كينج وصولا إلى الكوارث المعاصرة، من حريق الإسكندرية إلى التهاب سراييفو سنة 1992، مرورا بروما، وكتيزيفون، وبغداد "جنكيز خان"، ثم شرور محاكم التفتيش، ثم الثورة الفرنسية أو الكومون.