كيف يكون الاقتصاد السعودي قويا في مواجهة الأزمات؟
جاء في مقال سابق أن القرارات والضوابط المالية التي أعلنتها الدولة في مواجهة أزمة كورونا أتت في إطار سياسة المملكة نحو تحقيق الأمن والتوازن الاقتصادي المستدام، وتوضيح أن ما صاحب هذه القرارات من أثر مالي في القطاع الخاص والمواطن السعودي على المدى القصير كان من أجل تقليل المخاطر وتفادي حلول قد تكون أكثر صعوبة على المديين المتوسط والبعيد، إن لم تتخذ الإجراءات الاحترازية المطلوبة، وأن المستفيد الأول من هذه السياسات الاحترازية على المدى البعيد هو المواطن والقطاع الخاص ومؤسسات الدولة بشكل عام وعلى حد سواء، كما أن هذه الخيارات المالية الصعبة التي واجهت الدولة في الأزمة الحالية هي في المقام الأول نتيجة ضياع فرص تاريخية لبناء مدخرات وطنية من العملات الصعبة خلال فترة الطفرة المالية.
ولا شك أيضا أن الأزمات الاقتصادية توفر فرصا للإصلاح والتطوير. تعرضت اقتصادات دول كثيرة ومنها الاقتصاد السعودي خلال أزمة كورونا لاختبار قوي لمكامن القوة والضعف في مواجهة الآثار التي نتجت عن هذه الأزمة Stress test.
ومن ذلك قياس درجة المرونة التي يمكن أن تواجه بها الدول الأزمات على المديين القصير والطويل. والدول الأكثر استفادة من هذه التجربة هي الأكثر تقدما، التي لديها بنية مؤسساتية قادرة على التحرك والتفاعل السريع مع الأزمات.
والمملكة بمؤسساتها وقيادتها القوية ورؤيتها المستقبلية الطموحة من أكثر الدول قدرة على الاستفادة من هذه التجربة لتقوية إمكاناتها على مواجهة أزمات اقتصادية أخرى قد تحدث في المستقبل.
ويمكن تلخيص بعض أهم الفوائد المتوخاة التي يمكن أن تعزز من قوة المملكة والاقتصاد السعودي ليكون أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع الأزمات والتحديات المستقبلية:
1. الأهمية القصوى لوجود برنامج ادخار مالي للمستقبل يهدف إلى إيجاد دخل مستدام للدولة من العملات الصعبة Permanent Income. وهذا يتطلب تنسيقا كاملا ومقننا بدرجة عالية من الحوكمة الواضحة بين صندوق الاستثمارات العامة Sovereign Wealth Fund ومؤسسة النقد Stabilization Fund ووزارة المالية Fiscal rule كما تمت الإشارة إليه في المقال السابق بخصوص دراسة هارفارد عن إطار مالي متكامل للاقتصاد السعودي:A Stable and Efficient Fiscal Framework for Saudi Arabia.
2. قام صندوق الاستثمارات العامة بقيادته الجديدة وأهدافه الكبرى بجهود ضخمة نحو دعم وتطوير الاقتصاد المحلي من خلال إنشاء شركات وتطوير قطاعات جديدة في الاقتصاد السعودي والدخول في شراكات ومشاريع كبرى، إضافة إلى ذلك تم تطوير عملية الإشراف على استثمارات الصندوق في الشركات المحلية المدرجة في السوق السعودية لتكون أكثر مهنية ونجاحا. وفي فترة قصيرة أصبح صندوق الاستثمارات العامة في حجم استثماراته المحلية والشراكات الاستراتيجية الأكبر عالميا بين الصناديق السيادية Sovereign Strategic Development Funds إلى درجة أن كثيرا من شركات القطاع الخاص في المملكة بدأ يعبر عن تخوفه من حجم استثمارات الصندوق في السوق المحلية وكأنه اصبح منافسا أو مزاحما لكثير من استثمارات القطاع الخاص Crowding out.
لا شك أن أهداف صندوق الاستثمارات العامة تكمن في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي في مجالات مهمة لتعويض ما فات من فرص تاريخية في الماضي وتسريع عملية تحقيق رؤية المملكة 2030، ومن ذلك القيام بدور المحرك أو المولد لفرص جديدة في قطاعات مهمة Incubator/ accelerator.
ولهذا فإن صندوق الاستثمارات العامة يمكن أن يكون المنقذ والساعد الأكبر للقطاع الخاص في المملكة خلال هذه الأزمة، بالدخول في مشاركات استثمارية تكاملية أكثر مما هي تنافسية Public Private Partnership (PPP) لتحقيق بيئة استثمارية أكثر استدامة في القطاع الخاص وتعزيز دور القطاع الخاص لمواجهة أي أزمات مستقبلية على قواعد أكثر قوة ومتانة، ولا سيما أن المستقبل يتطلب أن يكون القطاع الخاص هو الأكثر توظيفا واستقطابا للكفاءات السعودية.
3. مقارنة بالدور الكبير والمهم الذي يلعبه صندوق الاستثمارات العامة في الاقتصاد المحلي، فإن جانب الاستثمارات الخارجية المتنوعة بالعملات الصعبة Sovereign Wealth Fund الذي يعنى بتحقيق الدخل المستدام للدولة Permanent Income لا يزال صغيرا نسبيا وبحاجة إلى دعم أكبر في الموارد المتوافرة سواء من مؤسسة النقد أو وزارة المالية أو العوائد من أرامكو Dividend لكن بطريقة مقننة ودرجة عالية من الحوكمة لتحقيق المطلوب كما تمت الإشارة إليه في الفقرة (1) أعلاه.
الأزمة الحالية تؤكد أهمية مراجعة الحجم الكبير لاستثمارات الصندوق المباشرة في الاقتصاد المحلي من خلال إعطاء مساحة أكبر للقطاع الخاص مقابل زيادة كبيرة في حجم الاستثمارات الخارجية المتنوعة لدعم الإيرادات المالية للدولة من العملة الصعبة من خلال ضوابط مالية وحوكمة قوية، ويبدو أن هذا هو التوجه العام للقيادة في المملكة ويعبر عن الطموحات الكبيرة لصندوق الاستثمارات العامة خلال الفترة المقبلة.
4. أهمية المحافظة على مستويات دنيا من الدين العام خاصة الدين بالعملات الصعبة لتفادي التزامات مستقبلية كبيرة بالعملات الصعبة، وأيضا عندما يكون مستوى الدين العام بالعملات الأجنبية قليلا نسبيا فإنه يمكن اللجوء إليه وقت الأزمات والحاجة الماسة إلى العملة الصعبة بسهولة ومرونة أكبر وتكاليف أقل.
يؤخذ في الحسبان عند تحديد نسب الدين المعقولة عدم مقارنتها بنسب الدين في الدول الصناعية الكبرى التي تقترض من خلال إصدار سندات استثمارية بعملاتها الصعبة في الأسواق المحلية والعالمية بدون أي صعوبة تذكر حتى إن تلك السندات تقارن عند الأزمات في مستوى الأمان والسيولة بالذهب أو الملاذ الآمن.
على سبيل المثال نرى خلال الأزمة الحالية أن وزارة الخزينة الأمريكية تصدر سندات بتريليونات الدولارات وكذلك البنك الفيدرالي الأمريكي يضخ كل منهما مبالغ هائلة في مختلف الأوقات والأزمات بدون صعوبة وعلى مستويات متدنية من التكاليف. وكذلك البنك المركزي الأوروبي والبنك الياباني لديهما إمكانات مشابهة إلى حد كبير للولايات المتحدة، في حين إن دولة كبرى مثل الصين لا تستطيع عمل الشيء نفسه لكون أسواقها المالية ليست بالعمق والسيولة الموجودين في الدول ذات العملات الصعبة الرئيسة.
لذلك نرى أن الصين مع إمكاناتها الصناعية الهائلة وتنوع اقتصادها لا تزال تعتمد إلى درجة كبيرة على احتياطياتها الضخمة من العملات الصعبة وقت الأزمات للمحافظة على استقرارها المالي، ومثل الصين ايضا الدول الآسيوية الاخرى المتطورة خاصة كوريا الجنوبية وسنغافورة التي حرصت منذ الأزمة المالية الآسيوية عام 1998 على المحافظة على احتياطيات ضخمة من العملات الصعبة.
5. تبين الأزمة الحالية أنه لا بد من ضوابط جديدة لرفع مستوى الأداء والقدرة على الوفاء بالالتزامات المستقبلية لكل من مؤسسة التأمينات الاجتماعية والمؤسسة العامة للتقاعد خاصة، لكيلا تتحول تلك الالتزامات إلى ضغوط مستقبلية أخرى على موارد وزارة المالية، حيث إن وزارة المالية تعد فعليا الضامن الأخير لالتزامات كل من المؤسستين.
ولا شك أن التنظيم الجديد برفع مستوى الإشراف على هذا القطاع المهم ليكون مرتبطا بوزارة المالية يعد خطوة مهمة لتحقيق المطلوب. ومؤسسات حكومية أخرى تحتاج إلى درجة أعلى من الإشراف. وفي التقاعد بالذات كان بالإمكان دعم الاحتياطيات المالية لهذا القطاع المهم خلال أيام الطفرة المالية لمقابلة الالتزامات المستقبلية الكبيرة، ولم يحدث ذلك.
بل إن كثيرا من مستحقات التقاعد لدى وزارة المالية لم يتم دفعه وقت الطفرة المالية الكبيرة، على الرغم من الهدر المالي الكبير خلال تلك الفترة. وتم ترتيب دفع كثير منها فقط في الأعوام القليلة الماضية. ولا بد أيضا من التأكيد على أن هذا القطاع المهم بأجهزته الاستثمارية الكبيرة يعد خطا دفاعيا آخر بعد مؤسسة النقد لدعم مالية الدولة وقت الأزمات كممول استثماري ورافد لاحتياجات الدولة من العملة الصعبة، كما حدث في سابق الأزمات المالية التي مرت على المملكة خاصة خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1998 عندما تراجعت احتياطيات مؤسسة النقد بشكل كبير.
6. أوضحت الأزمة الحالية جوانب القصور في نظام المناقصات الحكومية، وأن هذا النظام خاصة في الجوانب التطبيقية في حاجة ماسة إلى التطوير والإصلاح، بقي هذا النظام جامدا لعقود من الزمن، كانت الفرص الضائعة والتكلفة الأكبر قد حدثت خلال الطفرة المالية التي مرت على المملكة، حيث لم يستفد كثير من المواطنين من فرص التدريب والتوظيف في المشاريع الضخمة التي صرفت عليها مئات المليارات.
وفي أزمة كورونا الحالية تبين جانب آخر من المخاطر المتعلقة بالأعداد الهائلة من العمالة الأجنبية، التي لم يكن من ضمن شروط المناقصات الحكومية ومشاريع القطاع الخاص المختلفة ضوابط قوية بمتطلبات بيئة العمل والسكن التي تحقق المعايير الصحية المطلوبة وجودة الحياة. ولا شك أن جهود الدولة في الأعوام الأخيرة عدلت من الوضع كثيرا من خلال برامج "الرؤية"، إلا أن الأزمة الحالية قد تساعد على تسريع وتقنين نواحي التطبيق الصحيح.
7. أصبح واضحا في هذه الأزمة أن تكلفة التوظيف الحكومي في تزايد وقد تتعدى إمكانيات وزارة المالية في ضبط التوازن بين الصرف على المرتبات والصرف على المشاريع الإنتاجية ومشاريع البنية التحتية وغيرها من احتياجات الدولة، وأنه لا بد من زيادة فرص التوظيف للسعوديين في القطاع الخاص.
ولتحقيق ذلك لا يمكن الاعتماد فقط على قوانين السعودة التي أدت في كثير من الأحيان إلى زيادة كبيرة في التوظيف الوهمي، لا بد من حلول جديدة مبنية على زيادة في النمو الاقتصادي وتوسع في جذب الاستثمارات وفك الاحتكار لتوظيف وتدريب أعداد أكبر من السعوديين على العمل في وظائف حقيقية وبرواتب مجزية.
لا بد من التفكير بطرق أكثر انفتاحا وليس فقط من خلال القوانين والأنظمة الحالية المتعلقة بسعودة الوظائف، ومن الحلول الممكنة بيئة أقوى لريادة الأعمال ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال تفعيل البرامج المختصة في دعم المشاريع، التي لا يزال بعضها في طور الدراسة والتنفيذ. الأزمة الحالية تتطلب تسريع إنجاز هذه المبادرات الحكومية المهمة.
8. أزمة كورونا وتكاليف بنود التوظيف لدى وزارة المالية تؤكد - كما في الفقرة السابقة - أهمية رفع كفاءة أبناء وبنات هذا الوطن، ليكون مجال التوظيف للسعوديين أكثر سعة وتنوعا في القطاع الخاص وريادة الأعمال بدلا من تراكم الأعداد في الوظائف الحكومية بما قد لا يمكن استيعابه.
ولذا أهمية التوسع في البرامج النوعية للابتعاث وزيادة عدد المبتعثين التي تعد تكاليفها على خزينة الدولة أقل بكثير من تكلفة البطالة أو تكلفة التوظيف الحكومي الذي بلغ ذروته. يمكن التوسع في البرامج النوعية للابتعاث من خلال زيادة عدد المبتعثين الملتحقين بما يعرف الآن ببرنامج "ابتعاث النخبة" وزيادة عدد الجامعات المدرجة في البرنامج من 20 جامعة فقط حول العالم إلى ما لا يقل عن 70 أو 80 جامعة لزيادة القدرة الاستيعابية للبرنامج بدون تقليل من مستوى الجامعات المختارة.
ومن الأهمية القصوى أن يكون من ضمن برنامج الابتعاث الجديد التدريب على رأس العمل لمدة عام أو عامين على الأقل لدى مختلف الشركات في دول الابتعاث قبل رجوع المبتعث للعمل في المملكة. والدولة بمختلف أجهزتها التنفيذية خاصة صندوق الاستثمارات العامة ومؤسسة النقد وشركة أرامكو السعودية إضافة إلى وزارتي الدفاع والحرس الوطني لديها من المشاريع والعلاقات الوثيقة مع عدد كبير من الشركات في أنحاء العالم بما يجعل تلك الأجهزة الحكومية المهمة قادرة على المساعدة بشكل فاعل، نحو ترتيب برامج تدريبية على رأس العمل لخريجي برنامج الابتعاث الجديد.
يرجع المبتعث في هذا البرنامج، وليكن "برنامج الابتعاث والتدريب على رأس العمل" ولديه من الخيارات والمرونة في العمل أضعاف ما لدى المبتعث الحالي، الذي يعود وربما أقفلت أبواب كثيرة أمامه، إما لضعف التأهيل الأكاديمي أو عدم وجود أي خبرة في ممارسة العمل.
وأهمية التدريب على رأس العمل تنطبق أيضا على خريجي الجامعات السعودية، حيث يمكن ترتيب برامج مماثلة داخل المملكة وخارجها. ولأن نجاح هذا البرنامج مرتبط بعدة جهات حكومية وليس فقط وزارة التعليم التي لا شك تبذل جهودا كبيرة بطموحاتها وقيادتها الجديدة، ولأهمية البرنامج في رفع كفاءة الموارد البشرية في المملكة بما يدعم تحقيق أهداف "الرؤية" والمرونة المطلوبة في مختلف المجالات الاقتصادية، فإنه لا بد من رفع مستوى البرنامج ليكون واحدا من البرامج الرئيسة في رؤية المملكة 2030.
*عمل سابقا كبيرا للمستشارين ومديرا عاما للاستثمار في مؤسسة النقد وخبيرا غير مقيم في جامعتي هارفارد وستانفورد