التنافسية ورياح العولمة

التنافسية ورياح العولمة

ظهر مصطلح التنافسية بادئ ذي بدء في الفترة ما بين عامي 1981 - 1987، حيث عانت الولايات المتحدة الأمريكية عجزا كبيرا في ميزانها التجاري مع اليابان ومعنى ذلك العجز أن أمريكا تستورد من اليابان أكثر مما تصدر إليها، أو بعبارة أخرى أن المستهلك الأمريكي يقبل على شراء السلع اليابانية أكثر من إقباله على شراء السلع الأمريكية، فالسيارة والكاميرا والتلفزيون الياباني يحظى بقبول الأمريكي أكثر من السلع المصنعة نفسها من قبل الشركات الأمريكية، وكان السؤال المطروح هو لماذا يحدث ذلك وكيف بالإمكان تغيير الواقع وجعل السلعة الأمريكية أكثر تنافسية في مواجهة السلعة اليابانية؟ والحقيقة أن محاولة الإجابة عن ذلك السؤال انجلت عن حقيقة مهمة مؤداها أن المنتج الياباني يتميز بالابتكار والإبداع ويحظي بقيمة مضافة أكبر مقارنة بالمنتج الأمريكي، أو بعبارة أخرى أن المنتج الياباني يحظى بمواصفات ومميزات أكثر وأفضل من المنتج الأمريكي، مما يجعل المستهلك يقبل عليه حتى ولو كان سعره أعلى قليلا من المنتج الأمريكي وهذا الأمر يؤدي إلى تحقيق مزيد من الأرباح للشركات اليابانية التي تنعكس على أجور العمال وتتيح للصناعة اليابانية قدرا أكبر من العوائد التي توجه للبحوث والتطوير، مما يقود تلك الصناعة إلى مزيد من الابتكار والإبداع ويجعل المنتج الياباني أكثر تنافسية. وعندما هبت رياح العولمة في التسعينيات مصحوبة بثورة المعلومات وبدا العالم مفتوحا على مصراعيه أصبح المستهلك قادرا على اختيار المنتج الأجود والأرخص، وأصبحت أي سلعة تنتج في أي دولة تجد نفسها تتنافس مع مثيلاتها من السلع على مستوى العالم، وأصبحت الشركات في صراع مفتوح للحصول على الحصة الأكبر من السوق، هذا الوضع فرض على جميع المنتجين أن يقدموا المنتج الأفضل والأرخص والمتميز بالإبداع والابتكار إذا أرادوا أن يبقوا في عالم الإنتاج في الصناعات التي اختاروها.
في ظل هذا الوضع دقت الدول ناقوس الخطر للمحافظة على مكتسباتها التنموية وأبدت مخاوفها على آلاف الوظائف التي يمكن أن يفقدها العاملون في الصناعات المختلفة، إضافة إلى ما قد تواجهه من تراجع في معدلات النمو فبدأت أمريكا تضع البرامج كي تنافس اليابان وأوروبا تنافس الصين وكوريا تنافس ماليزيا وهكذا بالنسبة لبقية دول العالم، وقد آذن ذلك كله بدخول عصر جديد موسوم بالتنافسية وناسفا كل ما سبقه من مفاهيم تتعلق بالتنمية فلم يعد هناك دول نامية وأخرى متخلفة أو عالم أول وعالم ثان أو شمال وجنوب بل أصبحت هناك دول منافسة وأخرى غير منافسة دول قادرة على الاستجابة للمتغيرات ودول عاجزة عن الاستجابة والتفاعل وهو أمر أدى إلى خلق مزيد من التعاريف للمفاهيم الجديدة ومن ثم تطوير المعايير لقياس تلك المفاهيم، فعلى مستوى الدول أصبح رفاه المواطن وتحسين مستوى معيشته هو المعيار الأهم، ينعكس ذلك في تعريف التنافسية لدى المجلس الأوروبي في اجتماعه ببرشلونة سنة 2000، حيث عرف تنافسية الأمة على أنها القدرة على التحسين الدائم لمستوى المعيشة لمواطنيها وتوفير مستوى تشغيل عال وتماسك اجتماعي وهي تغطي مجالا واسع وتخص كل السياسة الاقتصادية. أما المجلس الأمريكي للسياسة التنافسية فقد عرف التنافسية على مستوى الدول بأنها قدرة الدولة على إنتاج سلع وخدمات تنافس في الأسواق العالمية وفي الوقت نفسه تحقق مستويات معيشة مطردة في الأجل الطويل. وقد توصل فريق معهد التنافسية الدولية إلى التعريف الموجز التالي «تتعلق التنافسية الوطنية بالأداء الحالي والكامن للأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالتنافس مع الدول الأخرى». ووضع لهذا التعريف مجال يتناول الأنشطة التصديرية ومنافسة الواردات والاستثمار الأجنبي المباشر.
وعلى مستوى القطاع فإن التنافسية تعني لقطاع ما قدرة المؤسسات المنتمية لنفس القطاع الصناعي في دولة ما على تحقيق ناجح مستمر في الأسواق الدولية دون الاعتماد على الدعم والحماية الحكومية، وهذا ما يؤدي إلى منافسة تلك الدولة في هذه الصناعة، مع ضرورة تحديد القطاع بدقة فمثلاً قطاع صناعة الموصلات لا يمكن خلطه مع قطاع الإلكترونيات، لأن مجالات وظروف الإنتاج تختلف.
أما على مستوى المؤسسة أو الشركة فإن تعريف التنافسية يدور حول قدرتها على تلبية رغبات المستهلكين المختلفة، وذلك بتوفير سلع وخدمات ذات نوعية جيدة تستطيع من خلالها النفاذ إلى الأسواق الدولية، فالتعريف البريطاني للتنافسية ينص على أنها: «القدرة على إنتاج السلع والخدمات بالنوعية الجيدة والسعر المناسب وفي الوقت المناسب وهذا يعني تلبية حاجات المستهلكين بشكل أكثر كفاءة من المنشآت الأخرى».
إننا ومن خلال ما تقدم نستطيع القول إن التنافسية هي فلسفة أو مدخل جديد لمفهوم التنمية وأن هذا المفهوم يتميز بخصائص مختلفة عما سبقه من مفاهيم حول التنمية وأن أهم خصائص هذا المفهوم يمكن إيجازها كما يلي:
التنمية المستدامة: إن المقصود بالتنمية المستدامة هنا هي تلك التنمية التي لا يجب أن يكون فيها الدافع نحو تحقيق الرخاء الاقتصادي والنمو طاغيا على بذل الجهود الفعالة في المحافظة على البيئة، كما لا يجب أن يكون النمو على حساب أفراد المجتمع مثل الموظفين والمجتمعات المحلية. فالتنمية يجب أن تأخذ في الحسبان العناصر الثلاثة النمو الاقتصادي، والبيئة، والناس، فالتنمية المستدامة في نهاية المطاف هي تلك التنمية التي تحقق حاجة الأجيال الحاضرة دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق حاجاتها، إن تحقيق مصنع للأسمنت أو مصفاة لتكرير البترول الأرباح في نشاطتها التشغلية لا يكفي إذا كان ذلك المصنع أو المصفاة يلوث الهواء أو المياه بما ينعكس على صحة العاملين أو المحيطين به أو يشكل خطرا على الكائنات الحية الأخرى، إن كل ما يتعلق بالأثر السلبي في البيئة والناس يجب أن يؤخذ بالاعتبار عند حساب التكاليف.
الميزة التنافسية: إن الميزة التنافسية تختلف عن الميزة النسبية السائدة في نظريات التنمية، والميزة التنافسية يعرفها مايكل بورتر وهو أحد الآباء المؤسسين لمفهوم التنافسية بالقول «تنشأ الميزة التنافسية بمجرد توصل المؤسسة إلى اكتشاف طرق جديدة أكثر فعالية من تلك المستعملة من قبل المنافسين، حيث يكون بمقدورها تجسيد هذا الاكتشاف ميدانياً، وبمعنى آخر بمجرد إحداث عملية إبداع بمفهومة الواسع». فدولة مثل فنلندا ليس لها أية ميزة نسبية في صناعة الجوالات ولكن خلقت لها ميزة تنافسية وأصبحت تنافس أكثر دول العالم تقدما في مجال التقنية ودبي أصبحت أكثر تنافسية في مجال الخدمات وإعادة التصدير بينما حظيت دولة مثل قطر بتنافسية في مجال الإعلام الجاد من خلال قناة الجزيرة.
القيمة المضافة: نقصد بالقيمة المضافة مجموع ما تكتسبه مادة العمل سواء كانت هذه المادة (مواد خام أو معلومة أو طاقة) خلال مسارها أو تحولها من مدخلات إلى مخرجات خلال عمليات الإنتاج ولتوضيح ذلك يمكن القول إن هواء الغرفة العادي يمكن تحويله إلى هواء بارد من خلال مكيف الهواء فتكون القيمة المضافة هو ما قام به مكيف الهواء في عملية التحويل وهكذا، فالقيمة المضافة للبنزين هو ما تقوم به مصفاة النفط من عمليات لتحويل النفط الخام إلى بنزين وتتجلى القيمة المضافة عادة في عملية التحويل، التخزين، أو النقل. ولقد أعطي مفهوم التنافسية أهمية قصوى للقيمة المضافة وجعلها المعيار في تصنيف اقتصادات الدول، فهناك دول تعتمد على تصدير المواد الخام دون أن تضيف لها شيئا فهي تبيع خام الألمنيوم على شكل بوكسايت بينما هناك دول قادرة على تصنيع المادة الخام لتستخدم في البناء، وبهذا تستطيع أن تبيعه بأسعار أعلى وهناك دول تستطيع تصنيعه ليدخل في صناعة هياكل الطائرات وهذه الدول تستطيع أن تبيعه بأسعار أعلى بكثير وهكذا نجد أنه كل ما كانت القيمة المضافة أكبر كان ذلك أجدى وأفضل في سلسلة القيمة، ووفقا للتنافسية هناك اقتصادات تعتمد على الموارد دون أية إضافة وهناك اقتصادات تعتمد على إنتاج السلع والخدمات وهناك اقتصادات تتميز بالإبداع والابتكار عند إنتاجها السلع والخدمات.
والتنافسية في الواقع تتم على عدة مستويات، فهناك تنافسية على مستوى الدول وهناك تنافسية على مستوى الصناعة وهناك تنافسية على مستوى المنشأة أو الشركة ولعلنا نعرض في مقال لاحق لأهم خصائص التنافسية على كل مستوى من هذه المستويات.

الأكثر قراءة