أثر تزامن صرف الرواتب في المنشآت الصغيرة «4»

في الأجزاء السابقة من هذا المقال أوردت نص "كتاب الوزراء"، الذي شرح بالتفصيل أول ميزانية للدولة معروفة بالنسبة لي وفقا للأسس المحاسبية المشهورة، وقد ورد فيها جانبا الإيرادات والمصروفات، وكيف يتحقق التوازن بينهما، ومعامل الفوارق، وقد ثبت أنها تشريع من الخليفة بأوجه وقيمة الإنفاق اليومي "المياومة". وتبين أيضا أن الإجازة الأسبوعية للراحة من أعباء العمل "يومان في كل أسبوع" كانت في الدولة العباسية منذ أيام المعتضد بالله، وهو أول من أقرها، أي قبل نحو 1200 عام تقريبا، ولكنها كانت إجازة غير مدفوعة الأجر، لقد جاءت تلك النصوص في معرض سؤال عن مصدر التشريع بدفع الأجور نهاية كل شهر، والشاهد تأجيل الدفع حتى نهاية الشهر ليس له أساس فلسفي، بل هو من حكم العادة، لكن ليست المشكلة هنا فدفع الأجور يوميا أصبح غير مقبول لعدة ظروف ومتغيرات، من أهمها: آليات الإنتاج القائمة اليوم، والمنافسة بين العمال، وحتى الارتباطات المستجدة بين الراتب والأقساط المختلفة وفواتير الخدمات، كل ذلك يجعل من الصعوبة تطبيق الأجر اليومي، لكن ما يصعب فهمه هو أسباب تركيز كل الجهات والشركات والقطاعات على الدفع في نهاية الشهر الميلادي، لا يوجد ما يبرر هذا الأسلوب في الدفع، فالأجور كما قلنا يجب أن تعتمد على أساس يومي في حسابها، فلا علاقة لنهاية الشهر بها، كما أن كثيرا من فواتير الخدمات تأتي بشكل عرضي، حسب يوم التعاقد مع الشركة، فبعضها يأتي في منتصف الشهر وبعضها في أوله وبعضها في آخره، وكذلك الحياة اليومية التي نحياها ليست في نهاية الشهر فقط، بل على مداره، فتقرير دفع الأجور في نهاية كل شهر وتثبيت ذلك ليس له أي فائدة اقتصادية تعود على المجتمع، بل هي مما استقر العمل عليه في أقسام الموارد البشرية والمحاسبة حتى تستطيع حساب تكلفة الأجور في نهاية العام الميلادي، لأن الدفع في منتصف الشهر يربك عليه الحسابات، وهذا قد يكون صحيحا تماما في وقت كانت كل الأعمال تتم من خلال الحسابات اليدوية، وتم احتساب الغياب والحسومات يدويا، وهذا كان يتطلب وقت من الرفع بها من جانب الإدارات المختلفة، حتى الحسابات ومن ثم إيداع المستحقات في البنوك، لكن هذا لم يعد قائما اليوم، فحساب المستحقات لم يعد يستغرق أكثر من دقائق بسبب أجهزة البصمة، والأجهزة الذكية أصبحت قادرة على إنجاز هذه الأعمال حتى دون وجود محاسبين، كل ذلك يتم في دقائق معدودة ثم الموافقات لم تعد تتجاوز أجهزة الحاسب وشاشات العرض، التي يمكن الدخول عليها من أي مكان في العالم، لم يعد هناك ما يمنع من دفع الأجور في منتصف الشهر أو في أوله أو حتى أسبوعيا.
لكن، ما الفائدة من طرح هذه الأسئلة والاقتراحات عموما؟ لا أتوقع أي تأثير في الأساليب القائمة، لكن ما يهمني هو كسر احتكار الفكرة، فكرة دع الأجور نهاية الشهر فقط، بل يمكن دفعها في منتصف الشهر ويمكن دفعها على دفعتين في هذه الأيام، والفائدة من جانبين، الأول هو حفظ حقوق العمال، فالشهر أصبح اليوم طويلا ليس بأيامه بل بمفاجآته، ومن السهل جدا أن تتعرض الشركات والمؤسسات لمشكلات في الدفع حتى نهاية الشهر، أسعار الفائدة تتقلب بشكل دراماتيكي، والأسعار كذلك، كل هذا له أثر، الأثر الآخر هو المهم، هو تأثير الدفع في نهاية الشهر في المؤسسات الصغيرة، فالتدفقات النقدية تتقلب بحدة بين وسط الشهر وآخره، وبالتالي فإن بعض هذه المنشآت تتعرض لصعوبات مالية كبيرة في منتصف الشهر، حيث تضعف السيولة بشكل حاد، البعض من أصحاب المنشآت الصغيرة يعتمد في مصروفاته على هذه التدفقات، والبعض منها يواجه مشكلات تلف المخزون نظرا إلى ضعف الإقبال في منتصف الشهر وتزايد الإقبال في آخره، خاصة تلك المنشآت التي تعتمد على أطعمة طازجة كالخضراوات والعصائر والمأكولات الحية، هذه العناصر لا يمكن شراؤها في وقت الذروة لتبقى حتى نهاية الشهر بل تتلف بسرعة، والطلب الفعال في نهاية الشهر فقط، لكن لا بد من توفيرها خلال الشهر لاستدامة الطلب، ولا يمكن لهذه المنشآت تحقيق ذلك في ظل تقلبات النقد الحادة.
لقد تتبعت تقلبات النقد من خلال تتبع إحصائية نقاط البيع الأسبوعية التي تصدرها مدى، وهذه تغطي جزءا معينا من التدفقات النقدية المدفوعة عبر هذه النقاط، فمثلا في 25 يونيو بلغت عمليات نقاط البيع أكثر من 177 مليون عملية، بقيمة 12 مليارا، في 2 يوليو انخفضت إلى 166 مليون عملية بقيمة 11 مليارا، هذا الفاقد في أسبوع تقريبا، في الأسابيع التالية استمر انخفاض القيمة حتى 10.9 مليار وفي الأسبوع الثالث وصل الانخفاض حتى 10.2 مليار ريال، ثم عاودت الصعود مع عودة الرواتب، فهذه التقلبات تؤثر بوضوح في المنشآت الصغيرة، خاصة تلك التي لها مخزون قابل للتلف السريع، لا شك أن السبب يعود إلى توحيد وقت صرف الرواتب على طول الاقتصاد، ولو تم توزيع صرف الرواتب بشكل متعادل بحيث يتم صرف رواتب المتقاعدين وعدد من الشركات في الربع الأول من الشهر وصرف الجهات الحكومية التي على بنود الخدمة المدنية في الربعين الثاني والثالث، وتبقى الجهات التي على نظام العمل والشركات الكبرى في نهاية الشهر، فإن في هذا ضمانة كبيرة للمنشآت الصغيرة بالحصول على تدفقات نقدية مستمرة واستدامة الطلب الفعال طوال الشهر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي