هجران تأصيل الأئمة وتجهيل المخالف

هناك من الناس شخصيات تذوب في حب من تعشق، فتتقمص أقوالهم وكتاباتهم وأحوالهم حتى وكأن الرائي والسامع لهؤلاء العُشاق يرى مكان المحبوب ويسمع له وقد تلاشت أمامه حُجب الزمان والمكان، ولكن يا ويح العُشاق فالحقيقة ليست كالخيال.
إن من نشأ على كتب ورسائل إمام التوحيد وأئمة الدعوة النجدية من أمراء آل سعود ومن آل الشيخ ومن تبعهم بإحسان لا بد أن يدركه عشق لهم وهيام بهم، يدفعه هذا الحب والذوبان في شخصياتهم إلى أن يخلق لنفسه بيئة ومحيطا خارج الزمن الذي يعيش فيه. فتراه ينتقل بروحه وفكره إلى مساجد الدرعية ليعيش عصر الدعوة المباركة الأولى وقد اخترق حجب الزمن في رحلة عودة عبر القرون السالفة، ليجلس بعد صلاة الفجر إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وهو يبحر في علوم الشرع من عقيدة وفقه فكأنه بين يدي ابن تيمية، وينصت إلى وعظه فكأنها رقائق ابن القيم ويسمع أخبار غزو الإمام وانتصاراته فكأنه في المسجد النبوي يتلقى بشائر الفتح الأولى.
والذي يظهر لي والله أعلم أن من هؤلاء العُشاق الشيخ الدكتور صلاح بن محمد آل الشيخ حفيد إمام التوحيد محمد بن عبد الوهاب وخطيب الجامع المسمى باسمه. وقد أحببت الشيخ الفاضل صلاح رغم عدم معرفتي له البتة، وذلك بحبي لإمام التوحيد ولأئمة الدعوة النجدية ـ رحمهم الله تعالى ـ.
كتب الشيخ صلاح ـ حفظه الله ـ تعليقا في جريدتنا ''الاقتصادية'' يوم الثلاثاء 6/8/1430هـ على مقال لي بعنوان ''في توحيد الفتوى''. في هذا التعقيب أظهر الشيخ صلاح مثالا حيا لعُشاق أئمة الدعوة النجدية. هذا العشق في ذاته ليس مأخذا يلام عليه صاحبه بل هو قربة يُتقرب بها إلى الله وأمر يُغبط عليه صاحبه ومفخرة حُق لصاحبها الفخر بها. ولكن الملامة تُستحق عند تجاوز الحد ووقوع المفسدة بالغلو في أئمة الدعوة وذلك بتنزيل أقوالهم وآرائهم في الفتاوى التطبيقية على وقائع وأمور قد اختلفت حيثياتها ومعطياتها ومن ثم حمل الناس عليها وتجهيل وتفسيق المخالف بأسلوب سرد الآيات والأقوال التي استخدمها الأئمة الأوائل في خطاباتهم وحواراتهم مع أهل البدع الشركية. ثم يأتي الخلف من أبناء هذه الدعوة المباركة فيستخدمون الأسلوب نفسه في الطرح والحوار مع المخالف وهم في ذلك لا يدركون مدى الألم والغبن والنفور والكراهية التي يزرعونها في قلوب مخالفيهم من أهل السنة والجماعة، ليشرح ذلك كثيرا من خلفيات أسباب مقولة ''لماذا يكرهوننا''.
في هذا التعقيب استحضر الكاتب الكريم أقوال علماء الدعوة النجدية وأحوالهم وكتاباتهم، فوجدت في ذلك فرصة ملائمة ونموذجا حيا أعبر من خلاله إلى عقول هذه الصفوة من أبناء الدعوة النجدية فأبين لهم بالمثال التطبيقي أن تمسكهم بأسلوب خطاب أئمة الدعوة النجدية وكتاباتهم من جهة وفرض ظواهر فتاواهم التطبيقية على الزمن الحالي من جهة أخرى هو في حقيقته خروج صريح عن منهج هذه الدعوة المباركة التي ما هي إلا دعوة تجديدية في أصلها تصحيحية في تطبيقاتها، وهذا السلوك من أبناء الدعوة، هو أيضا من الناحية التطبيقية تحجيم لنفوذ الدعوة النجدية وتخلخلها في العالم الإسلامي.
وبالجملة (وخارج عن تعقيب الشيخ الفاضل صلاح) فإن اقتباس فتاوى أهل العلم التطبيقية وفرضها على واقع معاصر رغم اختلاف الزمان والمكان والظروف السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية خطأ لا يقع فيه عادة إلا محب واله أو مقلد صرف أو صاحب هوى ينتصر لرأيه. فالمنصف العارف المحب لا يستشهد على الوقائع الحاضرة بالفتاوى التطبيقية من آراء العلماء الذين خلوا ولحقوا بالرفيق الأعلى وإنما يستشهد بتأصيلهم للمسائل. فالتأصيل يُجرد الفتوى عما لابسها من الأحوال في وقتها، ومن التأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي صاحبتها. وبقول أشمل وأوضح وأدق، فاعتماد تأصيل العلماء للمسائل يجرد الفتاوى التطبيقية من السياسات الشرعية التي قد تكون صاحبتها لأحوال مناسبة لها.
وعودة على التعقيب فنجده قد احتوى على ثلاثة أمور عادة ما تحويها خطابات هذه الفئة الطيبة من أتباع الدعوة النجدية. الأول هو منوال ووتيرة خطابات أئمة الدعوة النجدية من التحذير من الشرك ورد الأمور إلى الكتاب والسنة وسرد الآيات المهولة (والقرآن كله عظيم) حتى ولو كان الأمر يدور حول خلاف فقهي أو اجتماعي أو عرفي. وأما الأمر الثاني فهو موضوع التعقيب على مقالي ''في توحيد الفتوى''، والأمر الثالث فهو الفتوى التطبيقية لمفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم.
وبأربع مقالات مختصرة تأملية في هذه الأمور التي وردت في التعقيب سأبين كيف أن الدعوة النجدية في عصرنا الحاضر إنما أُوتيت من أبنائها المحبين البررة. ولكي أبسط المسألة وأتجنب الإطالة ولكي يشرح أول الكلام آخره فسأبدأ بما خُتم به التعقيب، حيث إنه المثال التطبيقي الذي أورده الكاتب الكريم كمثال توضيحي تطبيقي لما جاء في التعقيب المذكور.
هذا المثال التطبيقي الذي ورد في آخر التعقيب هو التمثيل والاستشهاد بقول نُقل عن مفتي الديار، ونصه كما جاء في التعقيب (قال الشيخ محمد بن إبراهيم حين أفتى البعض أن الأوراق النقدية حكمها حكم عروض التجارة، فلا يجري الربا فيها، ولا تجب فيها الزكاة إلا إذا أعدت للتجارة: ''وما أفتى بهذا إلا بعض الجهال، فإذا جعلت - الأوراق النقدية - عروضا، والمال محبوبا تركت الزكاة'' وما بين علامة الاقتباس منقول في التعقيب عن مفتي الديار) انتهى. ولي مع هذا المثال التطبيقي وقفات أربع.
الأولى: إن من ظلم مفتي الديار ـ رحمه الله ـ نقل الفتوى التطبيقية عنه دون تأصيلها وذكر مناسباتها. فمن يدري فلعل ظهور القول بعدم ربوية الفلوس المعاصرة يكون قريبا فينظر الناس مستقبلا إلى قول مفتي الديار كما ينظرون إلى فتوى تحريم القهوة وهذا ظلم له. فالشيخ بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ كان دقيقا في تأصيل مسألة الفلوس في عصره فقال ''هي نقد نسبي والاحتياط فيها أولى'' فتوى رقم 1639. وسبب تصريح مفتي الديار بالاحتياط هو بسبب قوة وظهور الأدلة النقلية الشرعية في عدم ربوية الفلوس المعاصرة وشبه الإجماع على ذلك في أقوال السلف مما لا يدع مجالا لعالم رباني (يعلم أنه إمام متبع) لأن يقول فيها برأيه دون النص فيحرمها إلا من باب الاحتياط وهو ما صرح به مفتي الديار. إذن فكل فتاوى الإنكار التي نُقلت عن مفتي الديار كانت من باب الاحتياط، وهو احتياط كان مناسبا في عصره. فمن حيث الأصل فالفلوس آنذاك كانت مرتبطة بالذهب ومُتعهد بقيمتها منه عند الطلب. وأما من حيث التطبيق فقد كانت اقتصاديات الناس بسيطة، كما كانت غالب أموال الناس في هذه الفلوس قبل ظهور العقارات والأسواق المالية فكان خوف منع الزكاة واردا عند المتعصبين للمذاهب فلا تسحب هذه الفتاوى التطبيقية على عصرنا الحاضر وقد تغير أصل تكييفها كما زالت الذرائع المحتملة بل وأصبحت ضدها.
الثانية: ذُكر في التعقيب أن الخلاف في الفتوى خاص بأهل العلم والاجتهاد. وأقول أو ليس الشيخ بن سعدي ـ رحمه الله ـ هو الذي كان معاصرا لمفتي الديار وهو بحق من أهل الاجتهاد إن لم يكن في الواقع أبرز أهل العلم في زمانه وأعلمهم بالفقه والتفسير والأصول، ومؤلفاته وكتبه تشهد له بذلك؟ أو ليس الشيخ بن سعدي هو من رأى أن الفلوس المعاصرة كعروض التجارة؟. فهل الإمام الشيخ بن سعدي من الجُهال الذين نصت عليهم الفتوى؟ قال الإمام بن سعدي ـ رحمه الله ـ بعد ذكره للقائلين إن هذه الأوراق أوراق نقدية لأن المقصود بها أن تكون بدلا من الذهب والفضة: ''لكن هذا القصد لا يكفي في المنع وجريان الربا، بل لا يدفع ذلك أن يكون داخلاً في النصوص الشرعية وقد علم أن الأوراق ليست ذهباً ولا فضة، فكيف تثبت لها أحكامها؟ فعلم بذلك أنه يتعين أن الصواب هو القول الثالث، وهو أنه لا يحكم لها بأحكام النقدين''. ثم قال ''وهذه الأوراق الأنواط ليست ذهباً ولا فضة، لا شرعاً ولا لغة ولا عرفا، فكيف نلحقها بالذهب والفضة بمجرد أنه يقصد بها، ما يقصد بالذهب والفضة أن تكون قيم العروض وغيرها''. ثم قال ''تعين القول بأنها بمنزلة العروض، وبمنزلة الفلوس المعدنية، وأنه لا يضر فيها وفي المعاملة بها الزيادة والنقص والقبض في المجلس أو عدمه، مع ما في هذا القول من التوسعة على الخلق، والمشي على أصول الشريعة المبنية على اليسر والسهولة ، ونفى الحرج وتوسيع ما يحتاج إليه الخلق في عاداتهم ومعاملاتهم'' انتهى. فهذا نص منه صريح ـ رحمه الله ـ بأن الفلوس بمنزلة العروض، فليس كل من جعل ''الأوراق النقدية'' عروضا جاهل.
إن اتهام المخالف بالجهل فقط من أجل خلافه في الرأي هو اتهام ظالم مؤلم فيجب ألا يُنقل إلا في موضعه ومناسبته. وتعميمه الذي جاء في التعقيب من الظلم الذي أوقعه أبناء الدعوة النجدية عليها.
وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي