التنمية المستدامة ومسؤولية التعليم

يقول خبير التعليم الشهير جون ديوي John Dewey، الذي امتدت حياته بين القرنين التاسع عشر والعشرين، "عندما نقوم بالتعليم اليوم بالطريقة ذاتها التي قمنا بها بالأمس، فنحن نحرم الطلاب من الغد". ويعكس هذا القول حقيقة أن العالم يتضمن خصائص متغيرة بين عصر وآخر، وأن هذا التغير يجب أن يؤخذ في الحسبان في العملية التعليمية كي يكون المتعلم واعيا للتغيرات، وجاهزا بالتالي لما سيأتي من معطيات متجددة في المستقبل. فبذلك يستطيع أن يسهم في التنمية المستدامة المنشودة التي تحتاج دائما إلى النظر إلى المستقبل، إلى جانب التعامل مع الحاضر، وبالطبع دون إهمال خبرات الماضي. يرى ديوي أن التعلم أمر يرتبط بالتفاعل الاجتماعي، وأن كفاءة تعليم الناشئة لا تعتمد على طرح المعرفة والجهد الشخصي المبذول في استيعابها فقط، بل على التفاعل المعرفي بين الأقران، وعلى التفاعل مع الأكبر سنا والأكثر خبرة في الحياة أيضا. وفي إطار هذا الرأي تختلف معطيات العصور المطلوب التفاعل بشأنها مع الآخرين، وتختلف متطلباتها أيضا. وعلى هذا الأساس تبرز الحاجة إلى التعرف على تجدد معطيات العصر الراهن وآفاقها المستقبلية، فضلا عن الحاجة إلى الاستجابة لذلك عبر الابتكار في مناهج التعليم، وفي أساليبه، تبعا لهذه المعطيات وتجددها. وتوصف آراء ديوي هذه في التعليم بأنها تتمتع بنزعة براغماتية Pragmatism، أي نزعة تتمتع بنظرة واقعية، وروح عملية. إذا قارنا بين تغيرات العصر من جهة، وتطور أساليب التعليم التي واكبتها من جهة أخرى، لوجدنا أن تطور التعليم لم يستجب بالقدر الكافي لهذه التغيرات. ولا يشمل ذلك دولة بذاتها، بل العالم بأسره. وأحاديث ومقالات تطوير التعليم مليئة بمثل هذه النظرة. وقد كان كين روبنسون Ken Robinson، على سبيل المثال، صوتا عالميا عاليا في مجال تطوير التعليم قبل رحيله خلال فترة "كورونا" عام 2020. لعل بالإمكان النظر إلى معطيات العصر الذي نعيش فيه، في مجال التعليم، على أنها تشمل جانبين: جانب يرتبط بوسائل التعليم، وجانب يتعلق بحركة المعرفة ومعطياتها المتجددة. لدينا في الجانب الأول وسائل التعليم عن بعد عبر العالم السيبراني Cyberworld، مضافا إليها وسائل الواقع الافتراضي Virtual Reality، ووسائل الواقع المعزز Augmented Reality. ويسمح العالم السيبراني ليس فقط بتنفيذ العملية التعليمية عن بعد، بل بإنشاء مجموعات نقاش وتفاعل معرفي بين الأقران ومع أصحاب الخبرة، بما يسهم في التعلم البراغماتي واستيعاب الأفكار، كما أشار ديوي. وتقوم وسائل كل من الواقع الافتراضي والواقع المعزز، بتقديم محاكاة تطبيقية للواقع الفعلي، تسهم في تقديم تعليم أكثر قدرة على الارتباط بواقع الحياة. إذا انتقلنا إلى جانب حركة المعرفة ومعطياتها المتجددة في مختلف المجالات، تظهر أمامنا الحاجة إلى التعلم مدى الحياة، وهو ما تقدمه كثير من الجامعات المرموقة، وعلى رأسها الجامعة الشهيرة هارفارد Harvard، عبر دورات خاصة متجددة، حضوريا وعن بعد. ولعل من أبرز المعطيات المعرفية المتجددة اليوم تلك المرتبطة بموضوع الذكاء الاصطناعي. ويرى كثيرون أن هذا الذكاء يمثل تحديا كبيرا للإنسان في سوق العمل، لكن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الإنسان على استخدام هذا الذكاء في تفعيل نشاطاته الإدراكية، والتوسع فيها، في مختلف مجالات الحياة. ويحتاج هذا الأمر بالطبع إلى ثقافة يتموضع الإبداع والابتكار في جوهرها. وهنا تبرز مسؤولية التعليم في هذا العصر، ففي التعليم بناء لعقلية الإنسان التي يجب أن تتفاعل مع العصر، وتنظر إلى الأمام مستجيبة لمتطلبات التنمية المستدامة. والخلاصة هي أن على التعليم مسؤولية خاصة في مسألة تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها، ولا بد له من التطور المستمر كي يستجيب لهذه المسؤولية الاستجابة المنشودة. يتمتع التعليم في هذا العصر بوسائل غير مسبوقة تتمثل في إمكانات العالم السيبراني ووسائل الواقع الافتراضي والمعزز، وهي وسائل ترتقي بفاعلية أدائه المعرفي، وتزيد من كفاءة أدائه الاقتصادي. ويواجه التعليم في هذا العصر أيضا تحديا يتضمن التعلم مدى الحياة، وبناء ثقافة الابتكار التي تستطيع أن تكون عونا له في مواجهة استيعاب تقدم الذكاء الاصطناعي، والعمل على الإسهام فيه. وما يقال بشأن الذكاء الاصطناعي، يقال أيضا بشأن كل المعطيات المعرفية والتقنية المتجددة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي