فن إدارة المشاريع
يبدو أني حركت مشاعر وأوتارا كثيرة في مقال الأسبوع الماضي عندما تحدثت عن قطاع الإنشاءات والمقاولات المحلي وفقدان الثقة بهذا القطاع المهم والحيوي في هذه المرحلة من مراحل التنمية في المملكة، بل شعرت بأن الجرح لدى الجميع عميق لأسباب، ما كان يجب أن توجد أصلا، ونحن في هذه النعمة والطفرة التي بدأت منذ السبعينيات، رغم المطبات الكبيرة التي أخذناها بين كل طفرة وأخرى! لكن في المقابل المسؤولية مشتركة منا جميعاً دون استثناء لهذا الحال الذي وصلنا إليه.
وبناء على تعليقات الإخوة القراء وبعض الأحاديث التي تمت مع بعض الزملاء حول الموضوع، الذين أشكرهم جميعاً سواء من علق بالإيجاب أو بالسلب، فمهما كان الاختلاف في وجهات النظر، يجب ألا يتحول إلى خلاف! كان السؤال الرئيس: أين الخلل؟
هل هو في المسؤول الرسمي عن هذا القطاع أو أي قطاع آخر؟ أم في الشركات العاملة في هذا الحقل أو أي حقل آخر؟ أم في النظام العام الضابط للمسؤوليات، الحقوق، والواجبات؟ ولنوضح أكثر، دعونا نتحدث عن أول وأهم نقطة في أي عمل أو مهمة يقوم بها الواحد منا. إنها قضية الإخلاص في العمل؟ مراعاة الإنسان ضميره في تنفيذ ما أوكل إليه! هذا المفروض وما يجب أن يكون علية الحال, لكن الواقع يقول إننا بشر في حاجة إلى نظام حياة وعمل وروابط حتى تكتمل الصورة ويكون هناك تناغم واضح، لذلك وجد الهيكل التنظيمي من دول وكيانات وأصبح لدينا ساسة وإخصائيون واقتصاديون ومسؤولون كل فيما يخصه! أليس هذا هو الحال؟ ألم يقل ذلك جل الفلاسفة والمفكرين؟ ألم يكن ذاك لب مقدمة ابن خلدون؟ لا بد من نظام لتستقيم الأمور!
المفروض وهو أمر فطري وبالذات مع تعقد شؤون الحياة، أن كل شيء، صغر أم كبر في حياتنا الخاصة والعامة هو مشروع، حتى نحن أنفسنا مشاريع بإرادة الله - عز وجل - لنا تاريخ ولادة وتاريخ وفاة ولنا هدف وجود وهدف مصير! وأوكل إلينا من يسجل في كتاب كل حركة وسكنة منذ اليوم الأول للولادة إلى اليوم الأخير من الحياة! وذاك لم يكن عبثاً, وبالتالي كل مشروع لا بد من أن يكون له هدف أو أهداف واضحة، وإلا دخلنا في سياق العبثية. ولو أننا فقط استحضرنا هذا الفكر في كل عمل نقوم به لكنا اليوم في مقدمة دول العالم, صدقوني هذا هو السر. ألم يقر المولى - جل وعلا - غاية الخلق حين قال ''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون''. طبعا العبادة بمفهومها الواسع، الذي يعني تكليف الإنسان وحمله أمانة عمارة الأرض، وليس بالمفاهيم الأخرى على غرار ولا تقربوا الصلاة!
اليوم هناك تخصصات دقيقة في فنون إدارة المشاريع وفنون إدارة الخدمات المساندة، وتمنح درجات عليا في هذه التخصصات. ورغم أن تاريخ تلك المشاريع والفنون جاء من التطبيق العسكري في غالب الأحوال وبالذات في الولايات المتحدة. وعلينا ونحن نعيش تطورات في مجال التنمية المستدامة، وهو ما يعني تنمية بمفهومها الشامل للمادة والإنسان معاً بما يحقق أهدافا عامة وخاصة، أن نعتني بهذا الأمر ونعيره أهمية كبيرة، فلدينا مشاريع صُرفت عليها المليارات ولم تحقق أهدافها بعد، أو أن الصورة غير واضحة نتيجة الانحراف عن الأهداف الأصلية. لا أريد ذكر مشاريع بعينها كمثال حتى لا تغضب أقواما، لكن أكاد أجزم أن لدينا مشروعا فاشلا على الأقل في كل قطاع أو مجال من مجالات العمل الرسمي، من صحة وتعليم وبنية تحتية و..!
وأول الأمور التي يجب أن يتم إعطاؤها الاهتمام الكافي هي الكيفية التي تتم من خلالها إدارة المشاريع. علينا أن نختار الأكفاء القادرين على إدارة المشاريع وتنفيذها على أرض الواقع, وتحويلها من مشاريع على الورق إلى واقع. هذا فن لا يتقنه إلا من منحه الله المهارة, إضافة إلى العلوم المكتسبة في هذا الحقل. أولى مهارات وعلوم تنفيذ المشاريع أن يكون القائم على تنفيذها مؤمنا بها., وليس فقط مسؤولا عين في هذا المنصب أو ذاك. يعني المسألة ليست وظيفة أو محطة إلى محطات أعلى! لماذا يبدع الفنان، لأنه مؤمن بفنه. وإدارة المشاريع فن، وليست وظيفة تبدأ السابعة والنصف صباحاً وتنتهي 2.30 ظهراً. المسألة ليس كشف حضور وانصراف كما يفتخر بعض المسؤولين بحضوره الباكر لمكتبه، في نسق روتيني ممل وغير منتج.
وثاني النقاط: أهمية الهيكل الإداري الذي يدير المشروع، كما قلنا لكل مشروع أهداف, وبالتالي خصائص، قد تكون هذه الخصائص ذات طبيعة متخصصة إلى درجات معقدة، وقد تكون أقل أو أكثر, وبالتالي علينا أن نتبنى الهيكل المناسب لكل مشروع مع الأخذ في الحسبان المعطيات على أرض الواقع. وأنا مع إبعاد الجانب الحكومي عن إدارة المشاريع وتنفيذها لكن مع الإشراف والرقابة. بل إني أتمنى أن تكون شركة مستقلة لإدارة المشاريع الحكومة (إدارة تنفيذها وليس تنفيذها وهناك فرق إدارة التنفيذ والتنفيذ المباشر).
وثالث الحلول: الأخذ في الحسبان الجانب الاجتماعي في إدارة المشاريع، فهناك مشاريع مادية بحتة مثل إنشاء مبان عامة لجهة حكومية ما على سبيل المثال, لكن هناك مشاريع ذات بعد اجتماعي مثل وضع نظام عام للالتزام بأنظمة المرور على سبيل المثال، هذا ليس مشروعا تقنيا بحتا أو ميدانيا، لكنه له جانب اجتماعي ثقافي وبعد اقتصادي أيضا. لذا وجب أن يكون تنفيذ هذا المشروع يأخذ في الحسبان هذه الجوانب كلها حتى نضمن لها النجاح. وعلى ذكر مشروع ''ساهر''، آمل ألا يكون قد نام المشروع من كثرة السهر في الطرقات، رغم التكلفة العالية لهذا المشروع!
الجانب الأخير هو قضية التقارير الدورية والرؤية التطويرية المستمرة في أي مشروع والمتابعة, فكما أن الإنسان تتم رعايته منذ أن يكون جنينا في بطن أمه إلى أن يبلغ على الأقل 20 عاماً، رعاية كاملة من تغذية ودواء ومن تعليم وتطوير للكفاءة حتى يصبح قادرا على الاهتمام بنفسه. كذلك مشاريع الأمة الكبيرة التي قد نحتاج إلى أن يستشهد في سبيلها بشر حتى تتحقق! أين الرعاية لها ومتابعة سير أعمالها؟ وأين معرفة مكامن الخلل فيها قبل خراب مالطة؟ وأين آلية التأكد الدائم من وضوح الهدف لتلك المشاريع وتوافر الأسلحة والأدوات التي تساعد على تنفيذها؟! أكاد أجزم أن لدينا مشاريع ضخمة تدار اليوم أو يتم تطويرها، وهناك من يعمل فيها ولا يعلم الهدف من وجودها أصلاً! فأهلا بأهل الفن والفنانين المؤمنين بفنهم المبدعين لأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم في كل المجالات، وأعاذنا الله من الوظيفية والموظفين والمرتزقة والمرتزقين! والله من وراء القصد.