فن إدارة المشاريع التقنية
تحدثنا في مقال يوم الأربعاء 8 ربيع الآخر 1431هـ الموافق 24 آذار (مارس) 2010م، عن فن إدارة المشاريع بشكل عام وبشكل خاص عن إدارة المشاريع التنموية الحكومية. وكان محرك هذا المقال، مقال سابق حول عدم الثقة بقطاع الإنشاءات والمقاولات المحلي، حيث تم إعطاء أسباب بديهية لانعدام تلك الثقة، ومنها أسلوب إدارة المشاريع وتم سرد شواهد محددة على سبيل المثال. في مقال اليوم نتحدث عن فن إدارة المشاريع في موضوع لا يقل حيوية وأهمية، حيث أضحى كأهمية الكهرباء والماء والغذاء للإنسان في حياتنا اليومية. إنه موضوع إدارة مشاريع التقنية في المؤسسات والشركات سواء في القطاع الخاص أو العام. وبالذات تلك المشاريع ذات الطبيعة الكبيرة التي تمس شريحة واسعة من المجتمع مثل مشاريع خطوط الطيران أو الاتصالات أو حتى الحكومات الإلكترونية. فعلاوة على ضخامتها وتكلفتها العالية على ميزانية تلك المؤسسات والشركات، فهي حيوية للمجتمع وبالتالي ليست خاصة بتلك الجهة المطورة لتلك المشاريع تفعل بها ما تشاء!
خلال السنوات القليلة الماضية كانت هناك إشارات واضحة، وفي خضم التطورات التقنية المتلاحقة، بأن هناك إدراكا كاملا من قبل صانعي القرار بأهمية المعلومات وتقنيتها، بدليل أن الهيكل الإداري الحكومي رُفع بناء على توجيهات مجلس الوزراء من مستوى تمثيل إدارة تقنية المعلومات في الوزارات الحكومية إلى أعلى مستوى ممكن. وهنا تعمدت القول أهمية المعلومات وتقنيتها ولم أقل تقنية المعلومات كما سارت بها الركبان العربية. حيث إن هناك فرقا كبيرا وكبيرا جدا بين المعلومات كمنتج مستقل وبين وسيلة إنتاج تلك المعلومات والتي هي التقنية الحديثة من تطبيقات تقنية تهدف فيما تهدف إليه إيجاد المعلومات بشكل سريع ودقيق وبشكل لا يمكن أن ننتج تلك المعلومة دونه، بالإضافة إلى التطبيقات الحديثة للتقنيات التي تمثل اليوم كل مناحي الحياة للأفراد والمجتمعات. والمشكلة التي لها أبعاد كثيرة أن ذلك الاعتماد على التقنيات بهذا الشكل وهو إيجابي بلا شك، لكن له تبعات كثيرة. منها أن المجتمع بشكل عام بكافة أطيافه يصبح غير قادر عن الاستغناء عن تلك التقنيات، وبالتالي تصبح عملية المحافظة عليها مكلفة وبالذات أننا حتى اليوم لسنا نحن المطورين لتلك التقنيات، وإنما مستهلكون لها دون وعي في كثير من الأحيان!
وتتفاقم المشكلة أكثر مع كل أسف في الوطن العربي وإن كانت مشكلة عالمية، هناك مليارات الريالات تنفق على التقنية، ولكن لا نزال فقراء في المحتوى المعلوماتي وفي تعظيم الاستفادة منها في مناحي حياتنا وبالذات فيما يتعلق بمستوى الخدمات المقدمة. وإن بدأنا نشاهد بعض النماذج الناجحة، ولكن تكاليف هذا النجاح عالية جدا! وهذا الأمر قضية شائكة ومعقدة، وبحاجة إلى بحار من الحبر لمناقشته. فكل مشاريعنا وبالذات تلك التي تقدمها الجهات الحكومية تكون عالية التكلفة بشكل غير مبرر وبالذات التقني منها!
وقد لا يعطي المجتمع هذا الجانب اهتماما كبيرا، إلا عندما يشعر بأن حياته تعطلت بسبب تعطل تلك التقنية أو الانتقال من تقنية إلى أخرى أحدث، ويصبح هناك خلل في عملها. وآخر تلك الأمثلة ما حدث مع بداية الإجازة عندما تعطل نظام الخطوط السعودية ''أماديوس'' في ذروة النفرة إلى بلاد الله الواسعة للعائلات للاستمتاع بإجازة قصيرة. ولكن لا يكاد يمر يوم إلا وهناك حالات كثيرة لأنظمة تقنية تتعطل أو تفشل في تحقيق الأهداف التي من أجلها تم شراؤها وضخ مليارات الريالات عليها. والسؤال لماذا تفشل تلك المشاريع التقنية؟
مرة أخرى إذا كانت المشاريع التي ليس فيها جوانب تقنية كما قلنا مثل مشاريع الإنشاءات والمقاولات بحاجة إلى فن إدارة المشاريع، فمن باب أولى أن نحتاج إلى هذا الفن للمشاريع ذات البعد التقني سواء لمشاريع جديدة أو تطوير مشاريع قائمة. ورغم غياب إحصائيات دقيقة، إلا أن هناك تقارير تتحدث عن بعض أرقام ما يصرف على التقنية المعلوماتية في المملكة فقط لبعض القطاعات وأنها في حدود عشرة مليارات ريال سنوياً! إلا أني مطلع على بعض تلك المشاريع التي كلفت الجهات العامة والخاصة مئات الملايين وفشلت فشلا ذريعاً، ولا يزال يكلف هذا الفشل ملايين لإصلاحه، والغريب أن من يحاول إصلاح الفشل يبقى هو الشخص أو الفريق نفسه الذي تسبب في الفشل الأول! والأسباب بالتأكيد ليس التقنية ولا جدوى المشروع!
السبب يا سادة يا كرام أن هناك مشكلة حقيقية في إدارة تلك المشاريع التقنية، والمشكلة أيضا أن تلك المشاريع من أكثر المشاريع مجالا لدخول الفساد فيها من أكثر من باب! بل أصبحت أكثر الأبواب استغلالا بسبب أن العاملين فيها ''يدركون'' أن المسؤولين قد ''لا يدركون'' هذه التقنية، وبالتالي يسهل بيع الفكرة بالسعر الذي يردون ويريدون! وحسب معرفة شخصية وليست إحصائية كل المشاريع التقنية التي تنفذ اليوم لدينا، يمكن أن تكون تكلفتها أقل بين 25 في المائة إلى 50 في المائة، إذا ما تمت إدارتها بشكل سليم وبعيدا عن فكر الاستغلال بين المطورين والشركات المنفذة وبين المستفيدين والنافذين في القطاعين العام والخاص. وحتى نكون أكثر واقعية فإن تلك المشكلة ليست محلية فقط بل عالمية ومعظم الدول تعاني منها، ولكن هناك أيضا عمل جاد لحل مثل تلك المشكلات ويتم مناقشتها والحد منها لدى تلك الدول وهناك تقرير عن هذا الموضوع في دول متقدمة كثيرة. وحسب إحصائيات بريطانية وليس سعودية فإن 50 في المائة من المشاريع ذات البعد التقني يكون الفشل فيها بسبب إدارة تلك المشاريع وليس بسبب جدواها أو أي أسباب أخرى. إذن ابحث عن الإدارة والقيادة!
وفي الختام، ما معنى أن مشروعا ما كان يجب ألا يكلف ثلاثة ملايين دولار في أسوأ الأحوال، يكلف تلك الجهة أكثر من 30 مليون دولار، ومع ذلك يفشل في تحقيق الأهداف التي من أجلها طلب أصلا، وينتهي المشروع كمصروف وليس أصلا!!! أو مشروع كان المفروض أن يعطينا إمكانيات أفضل في تقديم الخدمات وإذا به يصبح عبئا ومركز تكلفة عالية جداً، لا أحد يستطيع إيقاف نزيفه. وتصبح الخيارات المتوافرة كلها أسوأ من أي خيار آخر. لاحظوا أيها الأعزاء أني أعطيت مثالاً لمشروع كلف ملايين، ولم أتحدث عن مشاريع تقنية كلفت مليارات وذهبت هدرا. لأني لا أريد أن أجرح مشاعر أحد. والله من وراء القصد.