خواطر قضائية رمضانية
لشهر رمضان المبارك مكانة وقدر عظيم في نفوس المؤمنين بالله واليوم الآخر، جعلنا الله جميعاً منهم، وتعظيم شهر رمضان من تقوى النفوس لأنه من شعائر الله - عز وجل - التي أثنى سبحانه على من عظّمها (ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب..)، وإن كانت هذه الآية قد نزلت في شعائر الحج إلا أن الأرجح شمولها لكل ما يتضمنه دين الله -عز وجل ـ- من عبادات ومُعظّمات.
وفي ميدان القضاء وساحات المحاكم كم يتمنى المسلم أن يظهر أثر الصيام وحرمة الزمان في سلوكيات المتقاضين والقضاة أيضاً، فإنه لو تحقق ذلك لكان له من الآثار المباركة في تخفيف الخصومات، وتقليل المظالم ورأب صدع النفوس وإحياء جذوة التقوى، والخوف من التعدي على حقوق الناس وأعراضهم وأموالهم، ما يسر المؤمنين.
وأصحاب الفضيلة القضاة لا ينبغي أن يغيب عنهم أنهم دعاة إلى الله - عز وجل -، قبل أن يكونوا قضاة. وأنه ينبغي لهم أن يكونوا قدوة للناس في هذا الباب، وأن يكونوا بما لهم من سلطة على مجلس القضاء هم من يقود الناس إلى هذه الفضيلة ويدعونهم إليها. وإذا كان القاضي في مجلس الحكم هو صاحب السلطة في إدارة الجلسة وضبط نظامها، فإن من أولى ما ينبغي عليه مراعاته أن يكون تعظيم الصيام حاضراً في هذه الجلسة، وذلك في عدة جوانب أهمها:
أولاً: أن يحرص القاضي على ضبط سلوكيات المتقاضين، والحرص على منعهم من التجاوز في الخصومة والاعتداء فيها سواء باللفظ أو الفعل أو غير ذلك. وهذا الأدب مع وجوبه في عموم جلسات التقاضي سائر الأوقات، إلا أنه يتأكد في شهر رمضان وأثناء الصيام.
ثانياً: أنه القاضي ينبغي له أن يبتدىء في إظهار تعظيم الصيام بنفسه، حتى إذا دعا إليه المتقاضين يكون لدعوته أثرها. وإن أعظم ما يعظّم به القاضي هذا الشهر الكريم ؛ الحلم والأناة في تعليم الجاهل ومعاملة المخطئ، وأن يحرص على الرجوع إلى الحق بعد أن يستبين له، وأن يعطي كل خصومة ما تستحقه من نظر وتأمل، ولا يكون الصيام ذريعة للكسل والتواني في إنجاز قضايا الناس والتصدي لما ولاه عليه ولي الأمر وما ابتلي به من هذا التكليف العظيم، فإنه لا ينبغي أبداً أن ننساق وراء النظرة العامة التي تعتقد أن الصيام سبب لضعف الإنجاز وإهمال الواجبات الوظيفية وتعطيل مصالح المسلمين. وإذا كان هذا السلوك غير مقبول من سائر المسلمين فيِ أعمالهم كافة؛ فإنه من باب أولى غير مقبول من القاضي المحسوب على حملة الشريعة وطلبة العلم الشرعي والدعاة إلى الله ـ عز وجل.
ثالثاً: أنّ من أعظم أبواب الاستفادة من الصيام في نظر القضايا أن يحرص القاضي على عرض الصلح على المتخاصمين ومحاولة التوفيق بينهم – مع ضرورة مراعاة آداب الصلح الشرعي الواجبة التي سبق لي بيان بعضها في مقال سابق وهي لا تخفى على أصحاب الفضيلة القضاة – خاصة في النزاعات بين الأقارب والأرحام والزوجين. فإن المأمول في عرض الصلح أن يوفق – بإذن الله - إذا كان مصحوباً بالرحمة والشفقة والنصح والمحبة للمسلمين والإخلاص لله - عز وجل - بأن يكون رجاء ثوابه سبحانه لا سعياً للتخلص من عبء الحكم في الخصومة، وأن يكون عرض الصلح بأسلوب إيماني رقيق صادق مع التخويف من الظلم والتحذير من التعدي على حقوق المسلمين.
رابعاً: كم أتمنى من أصحاب الفضيلة القضاة ألا يلهيهم ضغط العمل وكثرة الأعباء الوظيفية – وهي بلا شك ملهاة لولا عون الله لهم – عن محاولة دعوة المتهمين بالمعاصي من الذين يعرضون على القاضي لتعزيرهم أو إقامة الحد عليهم، وأن يستحضر القاضي أن أثر الدعوة الصادقة إلى الله ـ عز وجل ـ قد لا يظهر في الحال بل في المآل، فلعل الله أن يهدي على يديه أحد العصاة من المسلمين فيفوز فوزاً عظيماً. وشهر الصيام والقرآن من أحرى الأوقات لنفع هذه الدعوة ـ إن شاء الله.
خامساً: ينبغي للقاضي بعد أن يحكم بالحق لأحد الخصمين على الآخر، أن يحرص على وعظ المحكوم له بحسن الاقتضاء من غريمه، وأن يرفق به إذا كان معسراً أو في ضيق ذات اليد، وهذا يختلف عن الصلح لأنه بعد ثبوت الحق وصدور الحكم، إلا أنه من التعاون على البروالتقوى.
كما ينبغي للقاضي إن كان له أي وسيلة أو صلة بجهة من جهات البر والإحسان أن يحتسب عند الله سبحانه في الشفاعة لبعض المحكوم عليهم من المسلمين ممن يظهر له فقرهم وحاجتهم بألا يكتفي بالحكم عليهم بل يسعى لبذل الإحسان لهم والشفاعة لهم لدى المحسنين وجهات البر بأن ينالهم من الصدقات والزكوات ما يعينهم على أمور حياتهم، سواء كان المحكوم عليه محكوماً عليه بأداء حق مالي لغيره، أو محكوماً عليه بتعزير عن معصية اقترفها وهو مسلم فقير مستحق للصدقة فلا ينبغي أن تكون معصيته مانعاً من الإحسان إليه.
وفي هذا السياق، لا أظنه يخفى على أصحاب الفضيلة القضاة أنه لا يحسن بهم أن يقبلوا من أي أحد جمع الأموال وأخذها لأنفسهم بحجة توزيعها على الفقراء والمحتاجين، فإن هذا باب من أبواب التهمة عريض، وسبب من أسباب انشغال القاضي عن مهمته الأصلية التي ينبغي عليه التفرغ التام لأدائها.
سادساً: لعل من الجوانب ذات الصلة بهذا الموضوع ما يقوم به بعض القضاة من تحري شهر رمضان لتوجيه اليمين إلى من توجهت إليه من الخصوم وطلبها منه في هذا الشهر للاعتقاد بأن صيامه قد يحمله على الصدق والخوف من اليمين الفاجرة. وهذه المسألة داخلة في حكم تغليظ اليمين في الصفة أو الزمان أو المكان، وهي على خلاف بين الفقهاء ليس هذا محل إيراده؛ إلا أنه مما ينبغي التأكيد عليه أن اليمين بالله ـ عز وجل ـ شأنها عظيم ولو لم تُغلّظ لأنها حلف بالعظيم القادر العليم سبحانه، فلا ينبغي التفريق فيها بين زمان وزمان لئلا يستقر ذلك في نفوس الناس فتهون عليهم اليمين في غير رمضان، والله أعلم.
سابعاً: أن من أهم الوصايا التي لا تخفى على أصحاب الفضيلة القضاة إنما هو التذكير، أن فضل القيام بمهمة القضاء واحتمال ثقلها والاحتساب في القيام بأعبائها مع تحري العدل واستحضار الخوف من الله - عز وجل؛ أن ذلك من أعظم الطاعات وأجل القربات وأنه لا يعدله شيء من النوافل – والله أعلم – لذا فلا ينبغي أن يغيب ذلك عن ذهن القاضي وهو يقوم بعمله ويؤدي رسالته، وألا يشوش عليه الشيطان بأن العمرة في رمضان أو الاعتكاف في الحرم أعظم عند الله أجراً من الفصل في الخصومات ورفع الظلم عن المظلومين وإيصال الحقوق لأصحابها، وأنه ينبغي للقضاة أن يتباروا في احتساب الأجر بقيامهم بهذا العمل الشريف في رمضان أكثر من غيره من الشهور فلا يكون الغالب الأعم على القضاة التسابق لأخذ الإجازات، أو حتى الأداء المتدني لأعمالهم في رمضان.
هذه خواطر رمضانية لعل الله أن ينفع بها من يقرأها، وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله أولاً وآخرا.