وتبقى الإذاعة متألقة

من بين وسائل الإعلام العديدة، انحزت عاطفيا وعقليا للراديو. ربما لأني من أبنائه حيث بدأت مسيرتي الإعلامية مذيعا في الراديو، ولكن الأمر ثبت أنه أكبر من ذلك، فقد نشرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية قائمة تضم أكثر الشخصيات الأمريكية نفوذا في الولايات المتحدة فجاء في المراكز العشرة الأولى في القائمة ثمانية أشخاص من مقدمي البرامج الإذاعية بالراديو في مختلف أنحاء أمريكا، حيث جاء في المركز الأول مذيع الراديو الشهير راش ليمبوج والذي بلغ حجم دخله السنوي نحو 58.7 مليون دولار مقابل تقديمه برنامج The Rush Limbogul Show على الراديو خمس مرات في الأسبوع.
جاء في المركز الثاني المذيع جلين بيك الذي يقدم برنامجا إذاعيا مقابل 33 مليون دولار، وجاء بعده في المركز الثالث المذيع شون هانتي بأجر سنوي قدره 22 مليون دولار، أما الرابع فكان المذيع بيل أورلي بأجر سنوي يبلغ 20 مليون دولار، ثم جون ستيورات في المركز الخامس بأجر 15 مليون دولار. ولكي نعرف ضخامة إنجاز هؤلاء من خلال الراديو نذكر أن أوباما جاء في المركز الـ 20 والرئيس الأسبق كلينتون كان أفضل الساسة، حيث جاء في المركز الثامن، أما الرئيس بوش فجاء في المركز الـ 18.
جاء نشر هذه القائمة مفاجأة للجميع وعلى رأسهم رجال ونساء الإعلام، حيث استقر في أذهان الملايين أن الراديو وسيلة قديمة فقدت رونقها وانعدم تأثيرها وانصرف عنه مستمعوه لحساب التلفزيون والصحف والسينما والإنترنت. ولكن يبدو أننا عن قصد نسينا عناصر قوة الراديو وعلى رأسها الحميمية، حيث يعتبر صديقا هادئا أذهب إليه وقتما أشاء من أجل الترفيه والتثقيف والإعلام. والراديو هو أرخص وسيلة اتصال بالنظر لرخص أجهزة الاستماع وانخفاض تكلفة برامجه إذا ما قورن بالتلفزيون أو السينما. والراديو وسيلة تقترن بالخيال الذي يسيطر على المستمع وهو يتابع الفقرات، فهو يسمع الأصوات ويتخيل الأشكال، وعادة ما يكون هذا التخيل لصالح الراديو. فالممثل الإذاعي مثلا هو الصوت الذي ينقل الدور، ولذلك كان هناك وجوه لا تتصف بالجمال لكن أصواتها هيمنت على المستمعين وصنعت ذلك التواصل والتجاذب الذي جعل المستمع يدمن هذه الشخصية أو تلك، والدراما الإذاعية مثلا هي أكثر أنواع الدراما إشعالا للمتابعة من خلال «خصوصية» التصور ويمكن لمليون مستمع أن يصف متابعته وتصوره لما يجري بشكل فريد لا يتفق معه فيه أحد.
أما قوة الراديو الهائلة فتكمن في سرعة وصوله للمستمع، وفي مجتمع يعطي احتراما كبيرا للسرعة، فإن مذيع الراديو نجم رائع، وإلى جانب سرعة الوصول هناك سعة الانتشار، فالموجات تنقل إرسال أي محطة إذاعية إلى أنحاء المعمورة، وتصبح اللغة فقط هي الحائل الوحيد دون المتابعة الكاملة.
ولهواة الموسيقى والغناء يجب أن نذكرهم أنه قبل وجود الراديو كان الاستماع إلى الموسيقى والغناء ترفا لا يبلغه إلا الأثرياء. إذ كان على راغب متابعة كبار الموسيقيين «باخ وموتسترات وبيتهوفن وشوبان وهاندل وهايدن وتشايكو فسكي وسترافنسكي وديفور جاك ومندلسون» وغيرهم أن يرتدي ملابسه الرسمية هو وزوجته ليدفع مبلغا كبيرا قيمة التذكرة، ولا يسمح له بأي تعليق أو مداخلة أو إزعاج حتى انتهاء الحفل. والآن يستطيع أي إنسان في أي مكان أن ينصت ويستمع ويختار وهو في مكانه، يمكنه الاستماع إلى الموسيقى المجردة أو الغناء بأنواعه «الشعبي والكلاسيكي والحزين والراقص والصاخب»، ويمكنه متابعة كافة التطورات في هذا الميدان الرحب في سهولة ويسر.
كما أن عالم الدراما والتمثيل الذي بدأ مع المسرح، ازدان وتألق وحظي بالشعبية مع المسلسلات الإذاعية والخماسيات والسباعيات والثلاثيات والدراما الشعبية والتراثية والبرامج الوثائقية التي نقلت لنا زخما معرفيا هائلا بتكلفة لا تذكر. ولا ننسى أن الإذاعة هي أسرع وأفضل وسيلة لنقل الأحداث والمناسبات.
وإذا كان الموقف قد أيقظ الرغبة فينا يا رجال الإذاعة بأن نتفاخر ونتباهى، علينا أن نذكر كيف نجحت إذاعة جوبلز وإذاعة الـ «بي بي سي» في الهيمنة على عقول الناس أيام الحرب العالمية الثانية، حيث كان هناك حربان: واحدة بالسلاح والأخرى على الهواء. ولم يتمكن التلفزيون في عهد الفضائيات أن يستقطب مثل هذا الاهتمام، وبجميع الإحصائيات كان التغلغل الإذاعي أقوى وأكثر فعالية.
وكما تعلم عزيزي القارئ أن اختراع الترانزستور نقل الراديو إلى آفاق فسيحة من الانتشار وعندما دخل الراديو السيارة أصبح صديقا عزيزا ومؤنسا حقيقيا على امتداد رحلات السيارة.
هذا هو الراديو الذي قفز نجومه إلى مصاف القمم في سهولة ويسر ورغم تمتعهم بالدخول الكبيرة إلا أن متعتهم الكبرى تكمن في ملايين المستمعين (يوجد في الولايات المتحدة 16 ألف محطة راديو)، الذين يتابعون المذيعين والمذيعات ويتعرفون عليهم بمجرد صدور نبرة صوتية واحدة.
وقد عشت هذه التجربة في مصر منذ عام 1963 عندما عملت مذيعا، وكانت سعادتي لا توصف عندما يقول لي سائق التاكسي، بعد أن أطلب إليه التوجه إلى مكان ما.. هل أنت فائق فهيم؟ وكنت أتيه سعادة وفخرا. ومع الزمن واختراع التلفزيون الذي أهل علينا بالإبهار والصورة والألوان خفت صوت الراديو في بلادنا وعلا شأن التلفاز رغم بدائيته، وظلت الأمور على هذا المنوال، وقبل أنصار الراديو الهزيمة والتي تكرست عندما كان المسؤولون يقبلون على مذيعي التلفزيون ويتجاهلون رجال الإذاعة، بل وعندما حدث تجاهل شبه جماعي في بلادنا للراديو، وتبدد الوفاء وحل محله الانصراف إلى ما هو أكثر تشويقا.
ولكني ــ وليس من قبيل الدفاع عن الذات ــ أصر على أن دور الراديو ما زال قويا، وأن هناك الملايين الذين يحبون الانفراد بالراديو ليعرفوا أخبار العالم على وسادتهم قبل نومهم ـ أعرف كثيرين ينامون على صوت الراديو. وما زال الراديو تلك الوسيلة المهذبة الرشيقة التي تحمل الأخبار وتنقل الترفيه الراقي في سهولة ويسر. والشيء المثير للحزن هو حالة الشعور بالهزيمة التي أصابت مخططي برامج الراديو، وغياب العقول المفكرة صاحبة الإبداع وانتقالها إلى أماكن أخرى، وبذلك خسر الراديو موجات الحماس التي نقلته دائما إلى القمة. فهل آن الأوان لأن يعود رجال الراديو المخلصون إلى قلاعهم، ليديروا دفة التنافس مع الوسائل الأخرى متسلحين بالقوى الكامنة في هذه الوسيلة الساحرة وهي السرعة والحميمية وقلة التكلفة وسهولة التقنيات، فالمطلوب منهم تقديم برامج مقنعة وإنشاء روابط قوية والنفاذ إلى عقول المستمعين وكسب ثقتهم حتى يعود الأصدقاء مرة أخرى.
هنا سيعود المعلن بأموال تدر على الإذاعات دخولا إضافية، وقد يكون فيها مع حسن الإدارة فرصة لرفع المستوى الاقتصادي للمذيع، حتى يتأهل للتنافس المستمر مع الوسائل الأخرى. ولا ننسى أن برمجة الراديو عملية تنطوي على الاستمرار والتعقيد والتنافس والشمولية. فأفيقوا يا أحباء الراديو.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي