استراتيجية تسريب الأسرار.. هل هي للتخويف أم للتغيير أم هي لعب بالنار؟

أمطرنا موقع ويكيليكس Wilkileaks على الإنترنت بأكثر من 250 ألف برقية متداولة (بالأحرى تم تداولها) في أروقة الدبلوماسية الأمريكية، ومعظمها يغطي فترة السنوات الثلاث الماضية. ولأننا نعشق التشويق ونهوى معرفة ما يجري في الغرف المغلقة، فقد قوبلت هذه البرقيات بحماس شديد مما دفع كبريات الصحف إلى تبني نشرها وعلى رأسها «نيويورك تايمز» الأمريكية و«الجارديان» البريطانية و«ديرشبيجل» الألمانية و«لوموند» الفرنسية و«البيس» الإسبانية.
تشبه هذه البرقيات ما تميل إليه الصحف الصفراء من ذكر معلومات محرجة بهدف اجتذاب القارئ الفضولي، فضلا عن أنها تغذي لدينا تلك النزعة لتشغيل قرون الاستشعار ومحاولة معرفة ما يجري حقيقة بخلاف ما يذكر عادة عن تبادل الأحاديث الودية وبحث وسائل تطوير العلاقات بين الدولتين.
وإذا انطلقنا في جولة نختار فيها بعضا من هذه البرقيات التي توضح المشاعر الحقيقية (والتي شبهها بعض كبار المحللين بأنها لون من الخربشة أي الكتابة في دورات المياه عن أمور يخجل صاحبها من ذكرها في أماكن أخرى علنية)، فإننا سنجد ما يلي:
أولا: هناك العديد من دول الشرق الأوسط تشعر بقلق حول برنامج إيران النووي أكثر مما تبديه علنا، والحقيقة أن تسريب خبر من هذا النوع يشي بمصلحة من أطلقه، لأن دول الشرق الأوسط جميعها وعلى اختلافها أو اتفاقها أظهرت موقفها من البرنامج النووي الإيراني والإسرائيلي معا، ولم تشر البرقيات إلى أي موقف لهذه الدول من البرنامج الإسرائيلي، مما يقول لنا الكثير في خطة إسرائيل والولايات المتحدة تركيز الهجوم باتجاه واحد. وقد علمتنا تجربة ما يقترب من 50 عاما مع خطط الإعلام ورسائله ووسائله أن نأخذ كل ما نسمع بحذر وأن نطرح التساؤلات ونبحث في التوقيت والمصلحة لنكوّن الرأي حول المرسل الخفي. وهنا نصل إلى البرقية التالية التي تقول إن السفير الأمريكي في سيول أبلغ حكومته في شباط (فبراير) أن الاتفاقات التجارية المغرية قد تجعل الصين أكثر حماسا لتوحيد كوريا ـــ وهو مطلب أمريكي شريطة أن تصبح الدولة الجديدة في الفلك الأمريكي ـــ والمعروف أن الولايات المتحدة تضغط اقتصاديا على كوريا الشمالية لدفعها إلى الاستسلام تماما وقبول الانضواء تحت جناح الشطر الجنوبي. ولكن قيام كوريا الشمالية بتوجيه ضربات عنيفة للجنوبية، مما دفع الأخيرة إلى إقالة وزير دفاعها، يقول حكاية مختلفة قوامها أن كوريا الشمالية رغم معاناتها الاقتصادية ترى أن لعب دور «الفتوة» سيعود عليها بخير أكبر، فضلا عن أن الصين تستمتع بما حققته من نجاح اقتصادي، جعل هذا الشعب الذي كان رمزا للفقر يتسربل في الثراء ويعيش في رخاء وترف ليتحدث عنهما كل من زار الصين. مما يكذب الخبر من أساسه.
من أكثر البرقيات انتشارا هي تلك التي تسب الزعماء في العالم، وهو أمر معتاد لكن الجميع يفضلون أن يتم ذلك سرا، وتأتي برقيات «ويكيليكس»، لتسرد مئات البرقيات عن الشتائم، وإكساب الشتائم نوعا من العلانية هو أسلوب استفزازي قديم ويدل على أن هناك مصلحة من إغضاب البعض.
برقية أخرى يعتقد مروجوها أنهم «جابوا الديب من ديله»، كما يقول المثل المصري، تقول إن هناك دولا تحاول واشنطن استقطابها لإقناعها باحتجاز بعض الأسرى الأمريكيين القابعين في جوانتانامو، ومن هذه الدول سلوفينيا وجزيرة كيريباتي التي تلقت وعودا بحصولها على الملايين، والحقيقة أن الولايات المتحدة وزعت معظم المساجين على دول عديدة، ورد ذكرها بانتظام عندما تردد أن أوباما سيغلق جوانتانامو، ولكن الرجل اكتشف أن السياسة الأمريكية ليست مجرد وعود انتخابية فصمت تماما. أما عن الدول المرشحة لاستقبال هؤلاء الأسرى فهي كثيرة ومتحمسة.
يدخل في دائرة اهتمام «ويكيليكس» الشائعات عن فساد بعض المسؤولين، فاتهمت البرقيات أحمد ضياء مسعود نائب الرئيس الأفغاني بأنه تلقى 52 مليون دولار نقدا عندما زار الإمارات، وقد أنكر مسعود ذلك، ونود أن نذكّر هذا الموقع بأن أكثر الأخبار انتشارا وأقوى الإشاعات هي تلك التي تتناول المسؤولين في الدول النامية، يبقى عامل اختيار النشر عن زيد وإعفاء عبيد مما يفي بالغرض.
أما البرقية الطريفة فهي تلك التي تقول إن الولايات المتحدة تعمل لحرمان باكستان من اليورانيوم المخصب الذي قيل إنه قد يؤدي إلى إنتاج قنبلة، والطرافة هنا أن البرنامج الباكستاني قديم واعترفت به واشنطن في مواجهة الهند عندما كانت علاقتها بالهند متوترة، وأنها مشغولة بإيران وفي حاجة إلى باكستان في أمور كثيرة مثل تخفيف التوتر على الحدود مع أفغانستان، بل لاستقطابها لتبتعد عن إيران.
وتعليمات كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة للدبلوماسيين الأمريكيين بجمع معلومات عن دبلوماسية الدول الأخرى جاءت باعتبارها سبقا تجسسيا، ولكن دعونا نسأل: وهل هناك عمل أهم لدى الدبلوماسي من جمع المعلومات كلما استطاع إلى ذلك سبيلا؟ أما الدول التي اختارتها البرقية فهي التي تطرح من البرقية مصداقيتها ـــ ذلك أن هيلاري كلينتون تريد معلومات عن السودان وأفغانستان وباكستان والصومال وإيران وكوريا الشمالية. إن من أطلق هذه البرقية يريد أن يبلغ الأمريكيين أن وزيرة خارجيتهم نشطة وتمارس عملها بحماس.
وبرقية أخرى عن العلاقة الوثيقة بين فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي وسليفيو برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي، حتى إن الأخير أصبح شغله الشاغل تحسين صورة بوتين في غرب أوروبا.
أما الخبر الذي يكشف الكثير عن مصدر هذه البرقيات فهو الخاص باستمرار سورية في تسليح حزب الله رغم وعود الرئيس الأسد للولايات المتحدة بأنه لم يعد يقدم أسلحة للحزب. إن إبراز أمر كهذا يؤكد مدى اهتمام الموقع بنقل الاهتمام إلى المناطق المجاورة لإسرائيل عسى أن يستيقظ اللوبي الأمريكي المساند لإسرائيل بحملة جديدة على رئيس يشعر الجميع بضعفه حاليا وهو الرئيس أوباما.
ولإشباع فضول هواة الفضائح لم يتردد الموقع العجيب في أن يردد قصصا عن زعماء العالم، فالمستشارة الألمانية ميركل عديمة الإبداع ويندر أن تتخذ قرارا به مخاطرة، أما كرزاي فهو يعاني البارانويا أو جنون العظمة المصحوب بالشعور بالاضطهاد، بينما بوتين «كلب قيادي»، أما القذافي فله صديقة أوكرانية شقراء وهو حديث قديم عن حرس العقيد القذافي الذي قرر جعله حرسا نسائيا منذ سنوات.
يعتقد الكثيرون أن هذا الجهد الهائل في إصدار آلاف البرقيات ليس نكتة أو طرفة، بل هو مشروع إغراق إعلامي له أبعاده وأغراضه، حيث يهدف إلى إخراج الناس من حالة عدم الاهتمام إلى حالة المتابعة المشوقة، لأن هناك رسائل في الطريق ووسائل لغسيل دماغهم، وما نراه ما هو إلا الفيلم القصير الذي يسبق العرض الكبير.. وهو بلا شك نموذج مكرر لهواة الغمر بالمعلومات والأخبار (بغض النظر عن مدى صحتها) في بداية معركة سياسية وإعلامية تبدأ عادة بالقصف المبدئي، ويتم خلط الحقائق بالأكاذيب والحابل بالنابل ليصبح المتلقي فريسة سهلة لتعديل أفكاره أو تخويفه أو اجتذابه إلى أفكار محددة أو تغيير ثوابته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي