الأحكام القضائية بين التنفيذ والتسويف

من المعروف أن المجتمع الذي تحكمه أنظمة وقوانين وتطبق على الجميع دون استثناء لأي سبب مهما كان, وتكون فيه الحقوق مصانة من التعدي عليها من أي جهة, مجتمع يمتلك أهم مقومات التطور والتقدم الإنساني على وجه الخصوص, باعتبار أن قيمة الإنسان تبرز في احترام حقوقه وصونها مثلما هناك واجبات عليه أداؤها بعدالة كاملة ومساواة لا نقص فيها.
من أهم الجهات المعنية بحماية الأنظمة والقوانين الشرعية وغير الشرعية هي القضاء الذي هو المرجعية للفصل في القضايا الخلافية, ومن أبرز مظاهر النظامية والقانونية في أي مجتمع التي تضبط التعاملات فيه, احترام أحكام القضاء احتراما مطلقا, والامتثال لها بلا أخذ ورد بعد تمييزها إن تطلب الأمر ذلك, وفي السياق نفسه من المفترض أن تكون الوزارات والهيئات الحكومية هي الأكثر حرصا والتزاما على احترام أحكام القضاء وتنفيذها مع حقها بالطبع بالدفاع عن حقوقها بالطرق الشرعية والقانونية, إلا أن ما يحدث عكس ذلك تماما, فقد رصد ديوان المراقبة العامة عدة تجاوزات لمكاتب محامين تكلفها وزارات وجهات حكومية بالدفاع عنها أمام المحاكم الإدارية كديوان المظالم, ومن هذه المخالفات التي أشار إليها تقرير ديوان المراقبة العامة قيام هذه المكاتب المتعاقد معها بالتسويف والمماطلة في حضور الجلسات, وكثرة طلب التأجيل إلى غير ذلك من أساليب تعطيل حصول الخصوم على حقوقهم (عكاظ 3 صفر), واستغرب معنيون بالشأن القانوني والإداري والحقوقي لجوء الجهات الحكومية إلى مكاتب محاماة مع وجود إدارات قانونية لديها من المفترض أن تقوم هي بالتصدي للقضايا الخاصة بها أمام المحاكم الإدارية وعدم تركها لمكاتب محاماة همها الوحيد التكسب من هذه القضايا على حساب إقرار العدالة.
الجانب الآخر من القضية, وهو الأكثر أهمية بل الأخطر, المماطلة في تنفيذ الأحكام مكتسبة القطعية, وتصبح المسألة أشد سلبية حين تصبح الجهة المماطلة في التنفيذ جهة حكومية, كما أشير أخيرا إلى أن هيئة الرقابة والتحقيق تسلمت توجيها من ديوان المظالم بخصوص عدم تنفيذ وزارة لحكم قضائي ضدها, ومطالبا بمساءلة المتسببين في التعطيل, وعدم التزام جهة حكومية أو غير حكومية بأحكام القضاء مكتسبة القطعية, يعكس صورة سلبية قد تؤدى إلى تهديد قواعد وأسس التعامل المفترض ارتكازها على سيادة النظام والقانون من خلال إلزامية الأحكام القضائية وعدم ترك تنفيذها لرغبات أو سلطات أخرى, فهذه الوزارة التي صدر ضدها حكم قضائي وقامت بالمماطلة وعدم تنفيذ حكم المحكمة تنطبق عليها أحكام المادة 29 من قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم, التي تنص على أنه ''إذا تضمن الحكم الصادر من ديوان المظالم ما يشير إلى حدوث فعل يشكل جريمة جنائية أو تأديبية تبلغ جهة التحقيق المختصة بصورة من الحكم لاتخاذ ما يلزم نظاما'', وهنا يأتي دور هيئة الرقابة والتحقيق في متابعة مثل هذه الحالات مع الجهات الحكومية، ليس فقط بإلزامها باحترام وتطبيق الأحكام القضائية, بل بمحاسبة ومعاقبة من يتسبب في التلاعب بأحكام القضاء مستندا إلى كونه جهة حكومية وجزءا من سلطة الدولة وفي ذلك إساءة لا إضافة.
إن سيادة القضاء وأحكامه قضية بالغة الأهمية لصون وحماية السلم الاجتماعي, فالقضاء العادل والنزيه والمالك لسلطة الإلزام دون تفريق, وتصديه لتحقيق العدالة وحماية الحقوق الخاصة والعامة, الضمانة الوحيدة مع سلطة الدولة للإشعار بأنه لا أحد فوق النظام والقانون, وأن الحقوق مسألة بالغة القيمة لا يجوز التهاون فيها، وإلا أدى ذلك إلى الإخلال بانضباطية التعاملات بما يجعلها محكومة بقوة السلطة لا بقوة القانون المقرون بالعدالة الكاملة والشاملة, والشيء بالشيء يذكر, فلا بد هنا إلا أن نشيد فعلا بدور ديوان المظالم والصورة الإيجابية عن ممارسته مهامه بعدالة وحزم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي