مَن يحرّك الشارع العربي؟
هناك رأي, وإن كان محدودا على الرغم من أنه شائع, يعيد ما شهده ويشهده الوطن العربي من ثورات شعبية, بعضها أزال أنظمة وبعضها الآخر يهددها, إلى مؤامرة ''صهيوأمريكية'' ضمن مخطط تآمري على استقرار الأوطان العربية, ولعل أبرز من أشار إلى ذلك الرئيس اليمني علي عبد الله صالح قبل أسبوع بقوله إن هناك غرفة عمليات في تل أبيب هي التي تثير وتدير هذه الثورات, وهذا الرأي الذي يؤمن بنظرية المؤامرة بالمطلق أو يسعى إلى توظيفها لأغراض أخرى, يحذر من أن إثارة الثورات مقدمة لتنفيذ المخطط الأكبر والقديم لتقسيم الدول العربية لدويلات عرقية ومذهبية, وهو ما سبق أن سمته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ''الفوضى الخلاقة'', التي سيولد منها شرق أوسط جديد.
أعتقد أن نظرية المؤامرة بهذا الشكل وإسقاطها على حركة الشعوب العربية فيها مبالغة وتهويل, فالمؤامرة موجودة فعلا, لكن ليس إلى هذا الحد بجعل الشعوب العربية مجرد ألعوبة في يد الصهيونية وأمريكا, وأن لديهما قدرات خارقة بحيث يستطيعان تحريكها بـ ''الريموت كنترول'', فمن السذاجة تصوير هذه الثورات بأنها محركة من الخارج, لأن دوافعها ومعطياتها متراكمة بسبب نوعية أنظمة أكلت يابسها وأخضرها, وتركتها تعاني حقبا من الفقر وقلة التنمية وانعدام المساواة وفقدان الحقوق وهي تستأثر بالسلطة والثروة معا, وهذا ما راكم احتقانا كان لا بد له من أن ينفجر يوما, ولم يكن بفعل خارجي يضفي على قوى فيه قدرات استثنائية بحيث تقوم بتحريك شعوبنا وكأنها شعوب ساذجة تقيمها وتقعدها متى شاءت.
وجود المؤامرة صحيح, لكن ليس في الفعل بقدر ما هو بردة الفعل من قبل القوى المعادية والطامعة في مقدرات الأمة, فهذا التآمر الصهيوأمريكي المشار إليه يبرز في قدراتهم في أي أزمة, بما لديهم من سطوة اقتصادية وسياسية وإعلامية وعسكرية, على إدارتها مصالحهم وأهدافهم ومخططاتهم, فهم لا يستطيعون خلق الأزمات بهذا الحجم الواسع, لكن يملكون استثمارها بقدر ما يستطيعون من خلال ما يسمى في علم الاستراتيجية فن إدارة الأزمات, وهذا واضح في تدخل الولايات المتحدة في كل ما يحدث في العالم العربي اليوم وبشكل سافر والظهور بمظهر المدافع عن حق الشعوب بحق أريد به باطل, وتخليها عمن كانت تعتبرهم من الأصدقاء والحلفاء.
في هذا الوضع على الشعوب أن تكون واعية ومدركة حتى لا تتحول ثوراتها إلى فوضى تنزلق بها لصدام عرقي وطائفي ومذهبي, ولعل هذا هو العنصر الخطير الذي يمكن أن يلعب به أي تدخل خارجي تحت أسماء خادعة مضللة, مستغلا حالة عدم التوازن التي تولده الثورات والتغيرات الكبرى لزرع الفتنة والمؤدية لتوافر أسباب التقسيم لدولنا العربية, وهو مخطط قديم ومعلن ومعروف, وهو ما سبق أن أشرت إليه في مقالي في ''الاقتصادية'' المعنون بـ ''هل بدأ مخطط تقسيم الدول العربية'' في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي بداية ثورة تونس وتعليقا على انفصال جنوب السودان, واليوم يصبح السؤال أكثر إلحاحا, فمخطط تقسيم دول عربية بعينها هدف من أهداف قوى خارجية تديرها الصهيونية لخدمة كيانها المغتصب لإخراجه من عزلته وتأمين أمنه بتفتيت الدول العربية المحيطة والقريبة منه حتى لا تكون مصدر تهديد له, وهذا دور الشعوب, لكن يبقى دور الحكومات والأنظمة العربية, التي عليها في هذه المرحلة التجاوب مع تطلعات شعوبها, خاصة شريحة الشباب وهم الغالبية العددية في العالم العربي, بشروعها في عملية إصلاح وطني, بعيدا عن المطالب الفئوية التي تريد الاصطياد في المياه العكرة, حتى تقطع على مخطط التقسيم الطريق وتحصن نفسها بتقوية الشعور الوطني ولحمته, وتمنع الفئات المستعدة للتحالف مع الشيطان لتحقيق أهدافها الضيقة العرقية والمذهبية على حساب أمن واستقرار الأوطان, فالتنوع العرقي والمذهبي في بعض الأوطان يمكن توظيفه من قوى الشر الخارجية إذا وجد تجاوبا من بعض فئاته لضرب وحدتها واستقرارها.
إن ترك الأمور لنزوات تريد التقليد فتجلب على شعوبها الويلات باسم الثورة أمر في غاية الخطورة, فموجة الإصلاح يجب ألا تركب بلا وعي وإدراك, فالإصلاح مطلوب وبات ملحا اليوم, لكن لكل بلد تركيبته المختلفة عن غيره, فهناك شعوب وصلت حياتها إلى طرق مسدودة لا خروج لها منه إلا بالثورة, بينما هناك بلاد لم تسد أمام شعوبها أفق الإصلاح والتغيير, لكن بهدوء لا يحتاج فيه إلى ثورة شارع تأتي بنتائج كارثية ومأساوية على الجميع, بقدر ما يتطلب ثورة رأي وفكر.