ليبيا .. هل هي غير؟!
ليبيا، بمعنى الجماهيرية، لن تعود إلى ما قبل ثورة الشعب المتصاعدة، ذاك ما لا يقبل النقاش، لأنه من الاستحالة بمكان. ولكن إلى أين ستنتهي هذه البداية وكيف؟ يظل هو السؤال الكبير، فالمشهد مفتوح انفتاح السموات على كل السيناريوهات، أولها احتمال قدر أو شكل ما من الحرب الأهليّة، باعتبار أن معركة القذافي ومن لف لفه مصيرية لا تتيح لهم سوى القتال حتى الموت، بغض النظر عن صواب ذلك من عدمه.
والدليل هو شخصية القذافي اليائسة التي لا يمكن التنبؤ بها إلا في العناد إلى حد الانتحار، ناهيك عن تصريحاته المعلنة. ومن خلفه ما هو أشرس، أبناؤه السبعة وكل مستفيد من امتيازات كل هذه الحقبة ''المملوكيّة'' وليست الملوكية فحسب.
هناك أيضاً احتمال شبه بعيد وهو انقسام البلاد، على أن إعادة وحدتها ولحمتها، قد تتطلب حيناً من الدهر يطول.
الثورة هي الثورة في كل زمان ومكان، لكن تطبيق قوانين الثورة يتأثر بالمكان أكثر من الزمان. ليبيا ليست تونس ناهيك عن أن تكون مصر.
ليبيا تعاني التوازن اللا متكافئ بين ضخامة الجغرافية والضآلة الواضحة في التراكم الوطني والتاريخ، فهي أدنى من السودان من حيث المثال على هذا القياس، ونقيض للبنان حيث الكم الهائل من التاريخ على رقعة ضيّقة من الجغرافيا.
منذ أن احتلها العثمانيون ثم دانت بما يشبه الحكم الذاتي للأسرة القرمانلية، وهي منقسمة إلى ولايات ثلاث: طرابلس وهي في الغرب، برقة وعاصمتها بنغازي في الشرق، وفزّان التي تتخذ من سبها حاضرة لها في الجنوب.
ليست القضية في ليبيا القبيلة، فليست تلك بالظاهرة الجديدة في العالم العربي، بل الخوف فيها من القبليّة وانحيازاتها وتفسيراتها السلبية السالبة، في ظل تعدد العرقيّات في ليبيا (عرب، طوارق، بربر، وتبو.. إلخ).
من سوء حظ ليبيا، أنها رزحت في 1911 تحت سنابك الاحتلال الإيطالي ''المتخلّف'' أيام الدوتشي موسوليني، وهكذا لم تنل من ضارة الاستعمار النافعة في الحد الأدنى من ''التحضير'' والتأسيس لمكونات الدولة الحديثة شيئاً يذكر. ثم جاء الانتداب البريطاني ـــ الفرنسي عقب هزيمة الطليان، حتى نهايته في 1951.
التراكم الوطني الشحيح في الدولة الوليدة الشاسعة المترامية الأطراف، لا يتناقض مع بسالة عمر المختار وغيره من المجاهدين الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي وفظائع الجنرال غراتزياني السفاح.
على أن الطريقة السنوسية التي لعبت دوراً روحانياً كبيراً في الحفاظ على الثبات على العقيدة عبر ''الزوايا''، وهي المثابات التي ربطت ما بين القبائل المختلفة، خلقت شكلاً تقدميّاً في تكوين النسيج الاجتماعي الوطني مقارنة بالأشكال التاريخية المغلقة أي القبائل، فوفرت القيادة التاريخية الجامعة التي نهض عليها مشروع ليبيا الحديثة، أي المملكة الليبية المتحدة.
ثم جاء القذافي، فملأ ليبيا وشغل العالم. 40 عاماً من التجريب السياسي لا التجربة السياسية، كان حصادها من المرارة بما لا يوصف ناهيك عن أن يطاق:
1- تغييب مؤسسات المجتمع المدني الحديث المنظمة البديلة في الداخل (هناك مجتمع ليبي واعد على تلك الشاكلة في الشتات).
2- غياب الجيش الوطني المحترف، الذي يناط به لعب دور سياسي جامع في فترات الانتقال الوطني، ثم الضامن النهائي لالتزام القوى السياسية المتنافسة المختلفة بقواعد اللعبة السياسية وفقاً للدستور والقوانين.
3 – مقلوب هذين المتغيرين هو قدر من القبلية وقدر أكبر من انتشار الميلشيات واتساع باب الارتزاق على مصراعيه.
في زمن سلطة الإعلام، ينبغي أن نحذر مما نتمنى: الجماهير تستقي أخبارها اليوم بشكل رئيس من فضائيتي الجزيرة والعربية. لأول مرة تلتقيان رأي العين بالعين بشأن الأحداث في ليبيا. الحقيقة أن المهنية والمصداقية هي ضحية الـ Wishful Thinking (التفكير بالأماني) في معظم التغطيات. التقارير عموماً تتأتى من الشرق، ولظروف راهنة وتاريخية معلومة، فإن بنغازي و''الشراقوة غير'' من حيث الهوى والولاء.
القضية المهمة باتت اليوم حول معرفة ما يجري على أرض الواقع في ثلاث مدن ومحيطها: طرابلس العاصمة، سرت حاضرة القذاذفة وربع القذافي، ثم سبها الربع الذي درس فيه وله فيها من الهوى والولاء مساحات كبيرة.
قضية ثورية الشرق وتمرده على العقيد من المسلمات إلى ما لا نهاية، لكن الرمانة باتت في الجنوب لترجيح كفة القذافي في الغرب، إن كان ما زال موالياً له.
خطورة الجنوب، تكمن في أنه المدخل إلى ليبيا من إفريقيا، بالذات من تشاد ومالي والنيجر، ومنظور سوق الارتزاق الحقيقي منها والمتخيل.
يبقى أن أكبر المخاطر على أفق الثورة: التدخل الأجنبي لأنه كفيل بترقية الحس الوطني والانحياز إلى نظام العقيد في مواجهة الدخيل، بل وإيقاظ الشعور القومي بالتضامن معه كي لا تتكرر المأساة في العراق. كما أن القاعدة وغيرها من التشكيلات خاصة القاعدة في المغرب العربي، يمكن أن تستفز وتنشط عند ذاك، لا حباً في العقيد ولكن كراهة في ''الخواجات''، وباسم الدفاع عن ديار المسلمين.
مشكلة ليبيا هي القذافي، فهو لا يرى في المرآة إلا ليبيا وما ليبيا إلا هو! على غرار لويس السابع عشر بتصرف: أنا الجماهيرية والجماهيرية أنا .. قُضي الأمر، فإلى الأمام، ثورة. إن القذافي هو الثائر الذي أفسدته الثورة! فأفسد تاريخ وطن اسمه ليبيا.