مكافحة الفساد من أهم مقومات الحياة المستقيمة (4)
الحمد لله القائل في محكم الكتاب ''وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً...'' (الآية: 143 ـ البقرة)، والصلاة والسلام على من أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وبعد، تواصلاً مع ما سبق أن كتبته في المقالات الثلاثة السابقة في هذه الصحيفة أسبوعياً على التوالي، فإنني أبدأ من حيث وصلت بالفقرة (د) من المرتكز (2) من الوسائل الخاصة بالاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحـة الفســاد في البنــد (ثالثاً)، وذلك كما يلي:
(د ـ تطوير وتقويم الأنظمة الرقابية والإدارية والمالية لضمان وضوحها وسهولة تطبيقها وفاعليتها.)
تأتي هذه الفقرة مؤكدة ضرورة تطوير وتقويم الأنظمة الرقابية والإدارية والمالية بما يكفل تحقق ضمان الوضوح، وسهولة التطبيق حتى تكون لها فاعلية في تحقيق الهدف المنشود، وهذا يختلف عن المراجعة الدورية المنصوص عليها في الفقرة السابقة (ج) لأن تلك تعني أنظمة مكافحة الفساد فقط، وما نُـص عليـه في هـذه الفقـرة أشمل وأعم نسبيا (الرقابية، الإدارية، والمالية)
(هـ ـ تقليص الإجراءات وتسهيلها والتوعية بها ووضعها في أماكن بارزة حتى لا يؤدي إلى الاستثناءات غير النظامية.)
لقد نص في هذه الفقرة على أهمية تقليص الإجراءات، أي اختصارها في إجراءات قليلة بعيدة عن التطويل الذي لا طائل منه، ولا فائدة من ورائه، وهذا يستتبع ضرورة تسهيلها، والتوعية بكل إجراء يكفل توصيل العلم بها عن طريق وضعها في متناول كل مراجع ومتابع عندما تعلن للعامة في مكان بارز، وذلك حتى لا يكون هناك مجال لأي استثناء غير نظامي لأن مثل هذه الاستثناءات قد تؤدي إلى حصول الفساد.
(و ـ قيام المسؤولين بالمراقبة والمتابعة للتأكد من سلامة إجراءات العمل ومطابقتها للأنظمة.)
من بدهيات مكافحة الفساد بالوقاية المسبقة لحصوله بقيام المسؤولين بحزم وجدية بالمراقبة والمتابعة من أجل التأكد التام من سلامة إجراءات العمل، وأنها مطابقة تماماً للأنظمة التي سنها ولي الأمر لتحقيق المصلحة العامة، ومتطلبات الحياة التي يسود فيها العدل والإنصاف والمساواة ليعم الأمن والأمان والاستقرار والسكينة.
(ز ـ اختيار المسؤولين في الإدارات التنفيذية التي لها علاقة بالجمهور من ذوي الكفايات والتعامل الحميد مع المراجعين، والتأكيد على مديري الإدارات بإنهاء إجراءات معاملات المواطنين ومراقبة الموظفين حتى لا يضعوا العقبات أمام تلك المعاملات.)
في هذه الفقرة أكد أهمية اختيار المسؤولين في الإدارات التنفيذية ذات الأهمية باعتبارها لها علاقة بالجمهور بحيث يكونون من المشهود لهم بالمقدرة والكفاية، والتعامل النزيه الذي وصف بالحميد مع كل مراجع دون استثناء تلافياً لأي انحراف أو فساد إداري أو مالي، وهذا يتحقق بالتأكيد على مديري الإدارات بضرورة إنهاء إجراءات معاملات المواطنين، ولا يكفي ذلك، بل لا بد من مراقبة الموظفين بدقة وعناية حتى لا يضعوا أو يختلقوا عقبات أمام إنهاء المعاملات، وانجازها في الوقت المناسب الذي لا يظهر منه إعاقة وتأخير، وهذا بلا شك فيه درء ووقاية من حصول الفساد، وكما قيل (الوقاية خير من العلاج).
(ح ـ التأكيد على عدم التمييز في التعامل وعدم النظر إلى المركز الوظيفي أو الاجتماعي للشخص.)
من الفساد الذي يكافح حصول التمييز في التعامل بأي شكل من الأشكال ومن ذلك حصول تمييز في معاملة شخص نظراً لمركزه الوظيفي أو الاجتماعي، ولذا أكد في الفقرة على عدم حصول أي تمييز في التعامل مع الأشخاص مهما كان وضعه الوظيفي، أو حالته الاجتماعية، فالناس سواسية لا يُفضل أحد على أحد في التعامل، وهذا مقتضى العدل والمساواة، والهدف من هذا التأكيد هو الحيلولة دون وجود تمييز لأحد على أحد، وهذا بطبيعة الحال وقاية ـ أيضا ـ من حصول الفساد.
(ط ـ العمل بمبدأ المساءلة لكل مسؤول مهما كان موقعه، وفقاً للأنظمة.)
وهذه الفقرة نصت صراحة على العمل بمبدأ مهم، وهو مساءلة كل مسؤول مهما كان موقعه ومركزه دون استثناء وفقما تقضي به الأنظمة التي دائماً وأبداً تنص على مساءلة كل فرد يرتكب جريمة مهما كان نوعها سواء كانت جناية أو جنحة أو مخالفة، أي كبيرة أو متوسطة أو صغيرة.
(ي ـ تعزيز جهود الأجهزة الضبطية المتعلقة بمكافحة الفساد.)
أجهزة الضبط بأنواعها المختلفة الجنائية والإدارية والجمركية هي الأساس في ضبط جرائم الفساد، ولهذا أكد في هذه الفقرة على أهمية تعزيز جهود هذه الأجهزة حتى تقوم بواجباتها خير قيام.
(ك ـ الاستفادة من الوسائل العلمية الحديثة ووسائل الاتصالات السريعة بين الجهات الحكومية المختصة.)
إن الفساد بما يحاط به من سرية وكتمان وتهرب ومقاومة يحتاج من أجهزة الضبط في الجهات الحكومية إلى جهود كبيرة ودقيقة وقوية، محفوفة بالسرية التامة، وهذا يستلزم من تلك الجهات الاستفادة من كل الوسائل العلمية الحديثة، ووسائل الاتصالات السريعة بين الجهات الحكومية المختصة حتى تتمكن من القيام بواجباتها في مكافحة الفساد.
(ل ـ ضمان وضوح التعليمات الخاصة بالرسوم والمستحقات والغرامات وتسديدها، وإيجاد السبل الوقائية الكفيلة بسد الثغرات التي تؤدي إلى ولوج الفساد إليها، بما في ذلك التسديد عن طريق البنوك وفق ضوابط مدروسة.)
معروف أن مكافحة الفساد تحتاج إلى الحيطة والتيقن والوضوح، وهذا استلزم النص في هذه الفقرة على أهمية وجود كثير من الاحتياطات منها ضمان الوضوح التام للتعليمات الخاصة بالرسوم والمستحقات والغرامات المالية، وأسلوب التسديد بحيث توفر كل السبل التي تقي وتكفل سد الثغرات التي تكون سبباً أو تؤدي إلى ولوج الفساد إليها، ومن ذلك التسديد عن طريق المصارف (البنوك) وفق ضوابط واضحة ومدروسة تحول دون حصول أي فساد.
(م ـ سرعة البت في قضايا الفساد، والعمل بمبدأ التعويض لمن تضار حقوقهم ومصالحهم من جراء الفساد بعد ثبوت ذلك بحكم قضائي نهائي من الجهة المختصة، ونشرها بطلب من المدعي العام وموافقة ناظر القضية.)
لقد نُص على سرعة البت في قضايا الفساد لما لذلك من أهمية في ألا يطول إيقاف المتهم مدة زمنية على ذمة التحقيق ونظر القضية، إذ قد يكون المتهم بريئاً فيتضرر، لأن (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، وليس هذا فحسب، بل ليكون الجزاء سريعاً وزاجراً لمن يثبت إدانته، فيتحقق الردع لغيره ممن تسول لهم أنفسهم ارتكاب الجريمة نفسها، وحسناً أن جاء هذا النص صراحة على مبدأ التعويض لمن تضرر من جريمة الفساد سواء كان هذا الضرر قد أصاب حقوقا لهم، أو مصالحهم الخاصة، وهذا التعويض لا بد أن يرد له ذكر في أسباب الحكم النهائي الذي يصدر من الجهة المختصة سواء كانت قضائية، أو لجان قضائية التي يصفها بعض الكتاب (بشبه القضائية)، والتشهير بالنشر عقوبة إضافية، ولهذا جعل النشر عنها بطلب من المدعي العام، وموافقة ناظر القضية، وهذا أدعى للتأكد من أهمية النشر وفاعليته.
(ن ـ العمل على توحيد اللجان ذات الاختصاص القضائي في جهة قضائية واحدة ومنحها الاستقلال التام.)
وهذا الذي نُص عليه في هذه الفقرة أمر مهم، ولعله يتحقق مع التطوير القضائي لأن نقل اختصاصات اللجان إلى المحاكم ذات الاختصاص النوعي له فوائد كثيرة منها التركيز على اختصاص معين يعطي القاضي التمكن من الاهتمام أكثر على هذا التخصص فقط، وعدم التشتت أمام اختصاصات متنوعة قد لا تساعد على الفهم والتعمق الذي يفيد في حسن البت في القضية، وهذا التخصص يساعد على سرعة النظر والبت في القضية، وغير ذلك من الفوائد التي يدركها المزاول لمهنة القضاء والمحاماة، والادعاء العام.
(س ـ التأكيد على التعاون في مجال المساعدة المتبادلة في محاربة الفساد، دون إخلال بالسرية المصرفية.)
في ختام المرتكز (2) نص في الفقرة الأخيرة على التأكيد على التعاون في مجال المساعدة المتبادلة من أجل محاربة جريمة الفساد من كل من له صـلة بالإجراءات التي تتخذ لمكافـحة جرائم الفســاد بما في ذلك المصــارف (البنوك) على ألا يخل ذلك بالسرية المصرفية.
ما تقدم كتابته هو بقية الفقرات من المرتكز (2)، والإيضاحات والتحليلات التي أرجو أن تكون مفيدة، وسأواصل الكتابة عن المرتكزات المتبقية في مقالات قادمة ــ إن شاء الله ــ متوخياً عدم الإطالة في المقال كي يتمكن القارئ من قراءته كاملاً، والله الموفق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.