يا صاحب السعادة ابتعد عن الشرفة قليلا!
.. أتوجه هنا لكبار المسؤولين بالدولة الذين يصدرون القرارات التي تتحكم في مصائرنا الحياتية، وأرجو أن أكون دقيقا في استخدام كلمة المصير، فالقرارات تؤثر مباشرة في أنماط عيشنا علميا واجتماعيا وصحيا ووظيفيا وعمليا.
في دولة ترى الناس يعيشون تعساء، قلقين، محبطين، مسلوبي الأمل، بسبب قرارات يصدرها مسؤولون، وهي قرارات كأنها تنَزّلُ من السماء، ليس فقط لا تناقش، بل من يجرؤ على النقاش؟! وفي دولة أخرى، تجد الناسَ مبتسمين متفائلين متوردي البشرة، ينتعشون أملا ويفيضون بطاقات العمل والإبداع، وقبل ذلك قاعدة عريضة منهم مجهزة للإقلاع في سماء الأمل والابتكار، فالقرارات هي حروف على قرطاس لا تأخذ قوتها وعنفوانها إلا من مدى عمليتها وصحتها..
معظم المسؤولين لدينا متعلمون علما عاليا، والمتعلمون هم تلك العقليات التي تقيس على النتائج ولا تتيبس رغم النتائج. هم أشخاص بعقليات عملية، وهي ترجمتي التي أطمئن إليها فيما يسمى بالعقل البراغماتي.
أبو البراغماتية ومرجع كل البراغماتيين تشارلز بيرس Charles Peirce يقول إنه لا يقدم نفسه إلا فيلسوفا علميا، أي من منطق الرياضة والكيمياء والفيزياء، وبالتالي هو ليس مثل الفلاسفة الميتافيزيقيين الذين يستنتجون من فرضيات تصنعها عقولهم، ثم يصفون نتائجهم بالصواب القطعي. إنما هو رجل عالم عملي (براغماتي)، وهي أن ما يملك من نظريات علمية هي الصواب، لكنها قابلة للتعديل أو الدحض متى ما ثبت علميا ذلك.. هذا مفهوم.. ولا شك أن كل مسؤول كبير يعيه تماما الوعي.. ويؤمن به. ونرجو أن يطبقه!
أعيد الرجاء بالقول لكل وزير، لكل مسؤول، مع كامل تقديري ومع كل احترامي، إنهم لا يهمون أي واحد منا إلا في مدى ما يحققونه إيجابا في سبل معاشنا. لو كان المسؤول أعظم عقل في الأرض في الصحة ثم لا أجد الدواء فهو لا يهمنا، وإن كان عبقري زمانه في التعليم ولا نجد تعليما محترما فهو لا يهمنا.
المسؤول الذي لا يؤدّي واجبَهُ في إيفاء حاجات المواطنين فإنه لا يهمنا خصوصا متى كان يعرف أن قراره هو الذي أدى إلى ذلك، فإذا مصيرنا يعاد تشكيله سلبا تحت وطء القرار، ونعلو بصراخنا.. فلا يسمع الصراخ، لأنه مشغول بسماع عزف قلة يقفون معه في الشرفة المرتفعة، ومصيرهم مصنوع معه على تلك الشرفة. أو أنه يسمع الصراخ َويقف على الناس من ذات الشرفة العالية ويقول لهم إنهم مدَعون وجزعون ويعملون من الرفاهِ مشكلة فقط لأنهم يريدون رفاها أكثر. والذي يحبطنا أننا نصدر اصطلاحات ولا نفسرها.. لا نفسر معنى الرفاه ولا معنى التضور جوعاً، ولا نفسر معنى الرضا ولا معنى القهر في الحقوق.. ولا نتحرى مكامن الغضب بسبب الإجحاف والظلم الذي قد يبلغ حد النير.. بعض من المسؤولين يصر أن يرى البركان لوحة من الروعة الأرضية، ولا اعتراض، فالبركان من روائع الدنيا، ولكنه لا يريد أن يدرك حقيقة السعير الملتهب داخله.. لأنه لا يراه. أو لا يريد أن يراه. هذا مسؤول لا يهمنا.
وترى مسؤولا يخطئ كل يوم، ويصحح قراره كل يوم، ويغير القرار لإعادة تسوية الأوضاع، وتجنب المشاكل التي طرأت، فهذا يهمنا. نعم قد يكون أخطأ لفقر دراسة توابع القرار، ووضع مصيرنا على كفٍّ زئبقي، ولكنه يتدارك ويسمع ويتراجع.. هذه هي ليست الصورة المثلى التي نتخيلها عن المسؤول الذي نريد، ولكنه مسؤول يهمنا لأنه يحاول من أجلنا.. إنه يرانا.. إنه يسمعنا، وفي مرحلة مثل هذه فهو يهمنا، لأننا نعرف أن قراره ليس حتما، وبالتالي مصيرنا مع قراره ليس حتما. العقلُ العملي ليس بالضرورة يعتمد كليا على البحث والدراسة النظريين، ولكنه يعتمد جدا على قراءة الواقع ثم التغير معه. وإن اجتمع البحثُ والنضوجُ والضميرُ مع العقل البرغماتي.. فذلك غاية الأحلام.
القرار يا سادتنا.. يصنع وراءه مصيرا. قبل أن تتشبث بقرارك، إن أساء لكثيرين (ولا أقول قليلين) فإني يا صاحب السعادة أرجوك أن تنزل من الشرفة.. وتعيد النظر!