العمل بين الإخلاص والبصيرة
كلما حاولت إيقاف الكتابة عن العمل ومتطلباته أجد الأفكار والطروحات تتسابق لفرض نفسها بشكل يعطل تنفيذ فكرة الإيقاف، وكنت أعتقد أنني بعد كتابة مقال العمل بين الإنجاز والبناء المؤسسي قد أغلقت هذا الملف مؤقتاً، ولكن تدافع المزيد من الحلقات الفكرية التي تكمل الطرح برز بشكل أقوى مما كنت أتوقع وكان على رأسها العلاقة القوية بين الإخلاص في العمل وأهمية ارتباطه بالبصيرة، وجاءت هذه الإضافة في حوار مطول من أحد الإخوة الأفاضل ممن كان له رأي داعم لأهمية البناء المؤسسي بالإضافة إلى تكامله مع الإنجاز.
العمل في كل المجالات أو القطاعات أو المؤسسات سواءً كانت الحكومية أو الخاصة أو غيرها يتطلب تعزيز وتوطين ثقافة وقيم العمل التي تحقق التطوير والبناء والإنجاز وتضمن استمرار العمل واستقرار التنمية والأمن وتطور المجتمع والدولة بشكل عام، وعند الحديث عن العمل يبرز دائماً العمل الحكومي كقطاع يتطلب العديد من أدوات وآليات التطوير والتأصيل وتوطين ثقافة العمل به والإحساس بأهميته في تطوير الدولة ككل.
إن أهمية تكامل العلاقة بين الإخلاص والبصيرة في العمل تضمن القدرة على الإنجاز والتطوير والبناء المؤسسي، لأن الإخلاص وحده لا يكفي للأداء المتميز، إذا لم تصاحبه بصيرة واضحة وثاقبة تعزز من أهمية الإخلاص وتحقق أهدافه وتضمن تميز الأداء والإنجاز، وفي المقابل إذا البصيرة لم يعززها الإخلاص تصبح ذات ميول غير سوية أحيانا.
لقد عرف الإخلاص بأنه تصفية العمل من الرياء أو التصنع للآخرين حتى وصفه الإمام الجنيد - رحمه الله - بقوله: (الإخلاص سر بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله)، ولهذا فإن صفاء النفس بالإخلاص في العمل يسمو بها إلى المراتب العليا للعطاء والإنجاز والإبداع ويحقق لها الراحة والطمأنينة والاستقرار النفسي والذاتي والصفاء الذهني.
كما عرفت البصيرة على أنها القدرة على الرؤية الصحيحة من خلال عقل الإنسان المبني على ثقافته وتربيته وتجربته ودينه. والبصيرة مقدمة على البصر، لأن الإنسان قد يكون ذا بصر حاد ولكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة، يقول الله سبحانه وتعالى في ذلك (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وفقد البصيرة يفقد القدرة على التشخيص السليم للأشخاص والأمور والمصالح، والبصيرة وحدها لا تكفي لتحقيق ميزان العطاء العادل المتميز، وهنا تحتاج إلى التكامل مع الإخلاص.
إن ترابط العلاقة الوثيقة بين الإخلاص والبصيرة يصبح مطلبا ملحا في أي عمل يتقدم به الإنسان ويصبح أكثر إلحاحا في العمل الحكومي، لأن تلازمهما يدعم العطاء ويكون الرقيب الأول والأساسي في محاربة الفساد أو الميول للتراخي أو عدم الاهتمام والتطوير والإنجاز.
البصيرة وحدها لا تكفي لضمان حسن الأداء لأن انفرادها لوحظ أنه ربما يقودها لتكون بصيرة ذات ميول شخصية أو تنمو منحى المصالح الخاصة وتعظم الأنانية الذاتية بالعمل ومصالحه، وهذه الميول تكون ذات أثر سلبي على أداء المؤسسة الحكومية، وهو ما يؤكد تقويم أداء بعض العاملين في بعض تلك الأجهزة.
الإخلاص والبصيرة متلازمتان ضروريتان للخطوات الأولى لإنجاح العمل وتحقيق البناء المؤسسي السليم للمؤسسة، وهما اللتان تقودان إلى تحقيق عناصر التميز الثلاثي المطورة للأداء وهي المعرفة والقدرة والسلوك، ولهذا عندما يتضامن الإخلاص مع البصيرة فإنهما يقودان إلى أحسن المعرفة وتعزيز القدرات وضبط السلوك السوي لأداء وتطوير العمل.
إن المعرفة تزيد من القدرة على العطاء وكلما زادت المعرفة وتوسعت المعارف أصبحت القدرة على العطاء أكبر وأوسع وهما ما تدعمان البصيرة وتجعلان القدرة على اتخاذ القرار أوضح وأقوى، لأن البصيرة تجعل زاوية الرؤية أوسع، واتساع الزاوية يجعل الأمور أكثر وضوحا لإيجابيات وسلبيات القرار المتخذ، ويقال في مجال الإدارة إن اتساع البصيرة مطلب أساسي للقدرة على اتخاذ القرار، ولضبط اتخاذ القرار المربوط بالبصيرة ربط بأهمية الإخلاص.
وقفة تأمل:
''إلى عاد ما للرجل رأي يدله
يأخذ من اشوار الرجال دليل
وترا هبيل القلب من لا يهمه
فراق الاخله والزمان طويل
وترا روضة الجثياث مر نباتها
مر ولو هي كل يوم تسيل
وعرق الندا يندا ولو كان بالي
يندا ولو هو بالمرح امحيل
فإن كان ما تعطي والايام عدله
فالأيام لا بد عدلهن يميل''.