الجاهلية تسيطر على إدارة المنظمات العربية

تزخر أدبيات الإدارة والأعمال بالكثير من النماذج والنظريات العلمية التي بنيت على تجارب وخبرات ميدانية ثرية في ثقافات متعددة عبر قرون طويلة. وتعد هذه النماذج وتلك النظريات بمنزلة خريطة طريق للمنظمات تعينها في بناء هياكلها التنظيمية وتحقيق أهدافها الاستراتيجية واستثمار مواردها المحدودة، إلا أن منظماتنا العربية لم تستفد كثيرا من منهج الإدارة العلمية وظلت تمارس أساليبها الإدارية بناءً على أفكار تقليدية ومعتقدات خاوية بعيدة كل البعد عن المنهج العلمي السليم. وهذا الإقصاء المتعمد لمفاهيم الإدارة العلمية أفقدها الكثير من الفرص وجلب لها الكثير من الأمراض الإدارية والانحرافات التنظيمية، وكوّن بداخلها صراعات لا تهدأ أفقدت العاملين الثقة بمنظماتهم والخوف على مصادر أرزاقهم.
وفي ظل هذه الفوضى كان لزاما على منظّري الإدارة والأعمال العرب أن يؤصلوا لنا نظريات ونماذج، ويطوروا أساليب وآليات تناسب بيئاتنا العربية التي قامت على عدم احترام العنصر البشري والنظر إليه بدونية، وكأن العبودية تأبى أن تفارق الفكر العربي. فمن أبرز خصائص المنظمات العربية التلذذ بقمع العاملين ومضايقتهم في مصادر أرزاقهم وسحقهم إذا لزم الأمر؛ لذا نريد أن نقدم للناس طرائق وأساليب تعين الموظف في البيئات الإدارية العربية على شق طريقه في المنظمة التي يعمل فيها وكيف يتعامل مع الأنظمة الإدارية والسلوك التنظيمي الشاذ للمنظمات العربية. نريد أن نقدم للموظفين في البيئات العربية آليات تعد بمنزلة منهج يمكن اتباعه ليتكيف مع بيئته التنظيمية التي هدفها استغلاله والتلذذ بقمعه إن لم يرخ رأسه ويركع لرئيسه.
لكن قبل هذا نريد أن نعرف لماذا تتحاشى شركاتنا ومنظماتنا تطبيق الأساليب والنماذج العلمية في الإدارة وتفضل أساليبها الذاتية واتباع منهج المحاولة والخطأ عند ممارستها الإدارة؟ لماذا لا يؤمن المديرون العرب بأساليب ونظريات الإدارة والأعمال رغم تسويقهم لها ومطالبتهم بتفعيلها؟ فلا تخلو منظمة عربية من إدارة للجودة الشاملة، وأخرى للحوكمة، وثالثة للتفتيش والمراقبة، ورابعة للمراجعة الداخلية، وخامسة، وسادسة. نرى كثيرا من منظماتنا تسعى جاهدة إلى إنشاء مثل هذه الإدارات والتغني بتلك المصطلحات، لكن عندما نغور في أعماقها ونتعرف على أهدافها نراها إدارات وهمية وأقساما هامشية غايتها إقناع الناس بأنها تسير وفقا لمبادئ الإدارة العلمية بينما هي في الأصل أشد المحاربين لها.
أرى أن هناك سببين رئيسين وراء رهبة المديرين العرب تطبيق الإدارة العلمية. السبب الأول له علاقة بالفكر العربي الذي أنتج المناخ الإداري الذي تعيشه منظماتنا في الوقت الراهن. فنحن نرى هيمنة الثقافة العربية بما تحويه من قيم بدوية وأعراف قبلية ومعتقدات جاهلية على طريقة إدارة المنظمات. المدير ينظر إلى الإدارة أو المنشأة التي يعمل فيها - وإن كانت حكومية - أنها جزء من ممتلكاته وأنه هو الرجل الأول وله اليد الطولى وهو الذي له الحق في بناء النظام وهدمه متى شاء وما الموظفون إلا مجموعة من التابعين أشبه بالدمى المتحركة مهمتهم تنفيذ ما يريد؛ ولهذا سيطرت على منظماتنا أسطورة القائد الفذ وترعبها فكرة المنظمة الرائدة. ورسخ هذا المفهوم الموظفون أنفسهم نتيجة تربيتهم القمعية وشعورهم بالتبعية وإحساسهم بالانهزامية.
أما السبب الآخر فهو أن المنظمات العربية حديثة عهد بالعمل الإداري، وأخذت من الفكر الإداري الحديث الناحية الشكلية فحسب، أما الأساليب التشغيلية لإدارة المنظمات فتنكرها جملة وتفصيلا. وقد حاولت بعض منظماتنا في بداية عهدها أن تكيف بعض النماذج العلمية إلا أن المنتفعين فيها أدركوا أنهم سيخسرون جراء ذلك فانكفأت على نفسها، وصممت لها نماذج إدارية تحاكي الواقع وتلبي رغبات الفكر العربي ظاهرها المصلحة العامة وباطنها نفعية يحفظ للمدير مكانته ويعزز من سيأتي من بعده من أبنائه وأصهاره لدرجة أنك ترى أن بعض المنظمات في البيئة العربية - منها حكومية - تجدها حكرا على عائلة بعينها أو قبيلة بذاتها فلا عجب أن ترى الأب والابن والحفيد يعملون في إدارة حكومية تابعة للدولة.
ولهذا نستطيع أن نستنتج أن الإدارة العلمية ليس لها وجود في كثير من المنظمات والشركات العربية، ويجب أن نعترف بذلك حتى نستطيع أن نطور مبادئ وأساليب تناسب الواقع الذي نعيشه؛ حتى تنقشع الغمة وتعي منظماتنا أن هناك أساليب علمية تنظم العمل، وتمنح العاملين حقوقهم، وتوضح طبيعة العلاقات بين الموظفين والمديرين وتعي أهمية التطبيق الفعلي لمفاهيم الإدارة العلمية.
وفي مقال قادم - بإذن الله - سأستعرض الملامح العامة للمنظمات العربية وطريقة إداراتها، وخصائص سلوكها التنظيمي ثم أختم هذه السلسلة بمقال ثالث أستعرض فيه الآليات التي يمكن أن يتبعها الموظفون في المنظمات العربية في كيفية التعامل مع منظماتهم الشاذة. وكل ما سأتطرق إليه من أساليب وطرائق تناسب أي موظف عربي أيا كان موقعه في خريطة الوطن العربي من خليجه إلى مغربه ومن شامه إلى يمنه؛ لأن الخصائص العامة للمنظمات العربية متشابهة إلى حد كبير. وقد يقول قائل: لماذا لا نجد الحلول لتغيير الفكر الإداري العربي ونجعله يعي أهمية تطبيق الإدارة العلمية؟ وأنا أقول إن هذا لن يتحقق إلا بمعجزة تنزل علينا من السماء كمعجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي غير عقلية العرب من عبادة الحجر إلى عبادة رب البشر. فالفكر العربي الجاهلي ما زال يسيطر على عقول الناس حتى أصبح جزءا من الثقافة التنظيمية لكثير من المنظمات العربية وأحد مكوناتها الأساسية إن لم يكن هو الذي أنشأها، ونحن نعلم أن تغيير مكونات الثقافة التنظيمية يستغرق عقودا ويحتاج إلى صراع داخلي عنيف أرى أن الموظف العربي البسط غير قادر عليه في الوقت الراهن وما عليه سوى التكيف مع واقعه المرير، وهذا مصيره، فما أشقى المصير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي