ثقافة التفاهم في الحوار مع الآخر
ربما لا تكون ثمة مشكلة جوهرية أو حتى عقدية بيننا كعرب ومسلمين، ومشرقيين بالأساس وبين كتلة الغرب، عامةً ومثقفين، تحول دون استمرار الحوار وآلياته.. فقط تكمن الحساسية لدينا إزاء الغرب كمشروع للسيطرة والاستعمار؛ فلم يعد مقبولاً ولا مسموحًا به الحديث عن حوار بين الحضارات والثقافات دون الانطلاق من نقاط مهمة، منها الاعتراف بالآخر، واستبعاد شبح التسلط والهيمنة، والاعتراف بالمساواة وإرساء قيم العدل والحرية، وتعزيز القيم المشتركة بعيدًا عن الازدواجية والفكرة الواحدة والرأي الواحد! وإذا افتقد أي حوار حضاري هذه الشروط؛ يصبح حوارًا للطرشان أو بالأحرى حديثًا أجوف بلا معنى أو حتى هدف، ويصبح مضيعة للوقت والجهد، ونوعًا من أنواع العبث والأفضل أن يتم التوقّف عنه! وهذه نقطة مفصلية، ومهمة، إذ تقتضي قواعد الحوار وآدابه الندية بين الطرفين. وفي غير ذلك، أزعم أن مشروعية الحوار وأهدافه، لا بد أن نتجاوزها إلى الحديث عن آليات هذا الحوار والتواصل، وأيضًا وسائله.
فقد انتقل الاهتمام الدولي بحوار الحضارات من القطاع الرأسي: الحكومات ودوائر المثقفين والمنظمات الدولية والإقليمية إلى القطاع الأفقي.. منتديات رجال المال، والأعمال، والاقتصاد، والمصالح نظرًا لما لمسوه من أهمية قصوى للدفع في هذا الاتجاه خوفًا من مخاطر مزاعم صراع الحضارات على حالة الأمن والاستقرار في العالم، وآثار ذلك من بث إشارات الطمأنينة، والأمان على أحوال التجارة والاستثمار والتبادل الاقتصادي بما يهدد مصالحهم المباشرة القائمة على أساس دعوة التجارة الحرة والسوق الحرة والتي يعد حوار الحضارات هو ترجمتها العملية؛ فنجد منتدى دافوس الاقتصادي العالمي يكرس دوراته المتتابعة منذ كانون الثاني (يناير) 2000 حتى الآن لهذه القضية العالمية المحورية بمشاركة عدد من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية.
وباستطاعتنا العمل على صياغة آليات للتواصل بيننا وبين الآخر، يمكن العمل من خلالها على مستويَيْن مهمين: الأول، ثقافي وفكري، والثاني عملي تطبيقي، يشكِّل المستوى الأول أساسًا؛ لبلورة نظرية تخاطب الرأي العام في مواجهة نظرية الصراع، يمكن أن يُطلَق عليها نظرية تكامل الحضارات، تصدر عن الأطراف ذات الاختصاص وأن يتبنّاها الجميع، ويعمل على نشرها، وتسويقها والعمل على تكريس انتشارها، بتجاوز حوارات النخب وصولاً إلى شعوب الشرق والغرب معًا بوصفها أساسًا للتعايش والتعاون بدلا من الصراع والتناحر، وإشعال الحروب، ويتضمن هذا المستوى مجموعة من النقاط يجب التأكيد عليها كأساس للحوار الجاد القائم على المصالح المشتركة، منها: أن يأخذ المعنيون بالحوار من أجل السلام العالمي في الشرق والغرب معًا في اعتبارهم، إعلاء قيمة العنصر الإنساني الذي يؤكّد أن محض البشر جميعًا متساوو الشراكة في أصل الشجرة الإنسانية إذا جاز هذا التعبير، دونما تحديد اللون، أو الجنس، أو العرق، ولا سيما أن علماء البيولوجي، أكدوا سابقًا أن الطبيعة الاجتماعية والبيولوجية، لدى الإنسان تشكِّل جهازًا غاية في الوحدة، ومن ثم فلا فرق بين إنسان وآخر بغض النظر عن البيئة التي نشأ فيها، في الشرق أو الغرب في الشمال أو الجنوب، وهذا المعنى هو الذي دعا إليه قرآننا العظيم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) (الحجرات 13).
في وضع قيمي، وثقافي وفكري في فكرة كهذه، فإن من الأهمية بمكان إحداث هذا التقارب على مستوى الأفكار في الإنسان ذاته؛ لأن أخطر ما يتهدّد الإنسان وحياته الاجتماعية، هو آفة الانعزال والشعور بالاكتفاء الذاتي فكريًا، في ظل استمرار سوء الفهم أو سوء الظن بالغير، وعدم الرغبة في التواصل مع الآخر، أو قراءته، والتعرّف عليه، ما يزيد حالته خطورةً وتفاقمًا، وهو شعور سلبي مكلّف، يؤدي غالبًا إلى التقوقع على الذات، أو الصدام مع الآخر، والخروج عليه. وتلافيًا لحدوث هاتين الآفتين (سوء الفهم وسوء الظن)، يصبح الانفتاح على الآخر والتقارب معه ومعرفة مكوناته ودوافعه وبواعثه، خيارًا أمثل وأصوب نحو ديمومة الحياة.
في المستوى الثاني، العملي التطبيقي، لا بد لمؤسسات المجتمع الأهلي، وفي القلب منها المجامع العلمية بما فيها كتّاب الرأي، وقادته، والمثقفون والأكاديميون في الشرق والغرب من التواصل معًا عبر صياغة بعض البرامج في هذا الشأن، ليتقارب الطرفان المتحاوران، دونما ترك القضايا الكبرى محل الخلاف نهبًا لبعض الإعلاميين لإشعال فتنتها بالتحريض وإثارة الكراهية ضد المسلمين صباح مساء، لإحداث ما يسمَّى بــ (الإسلام فوبيا)، وتلك هي الحالة التي تستغلها مراكز القرار ومعها الآلة الإعلامية في الحديث باستمرار عن أتون الصراع والصدام الذي يتبناه البعض لمصالح خاصة، وضيقة.
وأزعم أن أول خطوة نحو بلورة فلسفة هذا التواصل وآلياته الأكثر تفاهمًا وتسامحًا، هو الشروع في أن تجرى عملية إعادة اكتشاف كل طرف لنظيره الإنساني بشفافية بعيدًا عن التصورات المسبقة، والوعي بأن عملية تبادل المعلومات والخبرات حول الذات والآخر، تخضع دائمًا لعمليات تحول مستمر في أفكار الطرفين معًا؛، وعندما يكتشف كلّ منهما للآخر؛ سيكتشفان لا محالة، حجم الشراكة الحيوية الكبرى بين الإنسان ونظيره في الإنسانية؛ ما يدعو لأن تكون مشروعًا جدّيًا للشراكة المنسجمة، بعيدًا عن الاستقطاب الحاد، والميل المندفع نحو الإخضاع والسيطرة، جنبًا إلى جنب مع توسيع الدائرة الإيمانية لديهما، لتحقق نقلة نوعية، بفتح أبواب الحوار ونوافذه، مشرعة لآفاق أوسع وأرحب وأرقى في عالم العلاقات الإنسانية الأسمى.
فعندما يكون حوار الأديان مظلة، شاملة وجامعة، لعودة ثقافة الإنسان إلى منابعها فإنه يكون من السهل حينئذ أن تتفاعل الأجيال المقبلة؛ لأن دوافع التفاعل وبواعثه تنطلق من منابع تتمتع بوحدة المصدر، خاصةً أن القيم الإنسانية العالمية التي تسعى لتحقيقها كل المجتمعات، كــ (الوسطية)، و(الاعتدال)، و(التسامح)، و(العدل)، و(الحرية)، و(الكرامة الإنسانية).. وغيرها من منظومة القيم الثابتة في الضمير الإنساني، مسلّمات أساسية في ديننا الإسلامي، وليست قيمًا تخضع للخيار الإنساني يفعلها أو يتركها من يشاء؛، إنما واجبات ملزمة ومسؤولية ينشأ عليها الأجيال منذ الصغر؛ لتتحول بعد ذلك إلى جزء من النسيج العقلي والفكري الذي ينعكس على السلوك والممارسة في حياتهم، اختيارًا وطواعية. ويصبح تدعيم الشعور الديني، حينئذ، ضرورة أساسية لتدعيم الشعور الأخلاقي وتقوية الشعور بالواجب والمسؤولية، والالتزام بقضايا الجماعة والتضحية في سبيلها.
وأخيرًا وليس آخرًا، من المهم أن نفهم معا، نحن وإياهم، ولا سيما أن ثقافتنا الإسلامية لا تتناقض ولا تتصادم مع الثقافات الأخرى كما يدّعي بعض الإعلام الغربي، فيثبت التاريخ أنها احتوت وتضمنت واحتضنت الثقافتين اليهودية والمسيحية، وقد نبغ في ظلها عباقرة وأفذاذ من شتى الأديان، والأجناس، قدمتهم الحضارة الإسلامية للعالم وعرفت بهم وترجمت أعمالهم حتى بعد رحيل بعضهم وكاد تراثه الفلسفي والعلمي يندثر ويضيع في ذاكرة النسيان، فقدّمت ثقافتنا هؤلاء وأعمالهم للعالم بما تحمله من قيم التسامح والتقدير للمواهب رغم اختلاف الجنس واللغة والدين، واللون والعرق.