شهر رمضان والعودة للذات
الاهتمام بالإنسان وبنائه البناء السليم في جميع جوانب الدنيا والآخرة وتحقيق التوازن في بناء شخصيته الإنسانية هو ما أسسه النبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته وحياة أصحابه - رضي الله عنهم، وهو المنهج الذي بُنِيت عليه حياتنا الدنيا، يقول - عليه الصلاة والسلام : ''إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فآت كل ذي حقٍ حقه''.
إن هذا الحق الذي فطن له الدين الإسلامي وحرص عليه عبارة عن محطات في حياتنا الدنيا نتوقف فيها لمزيد من الاستزادة من العمل الصالح المغذي للأرواح المؤمنة، وهو ما أكده العديد من فلاسفة وعلماء العالم، ومن ذلك ما ذكره الدكتور ستيفن كوفي في العادات السبع من أهمية التوازن بين حاجات الإنسان الروحية والعقلية والجسدية والاجتماعية.
لقد ذكر العديد من علماء النفس المعاصرين أن أكبر مشكلة تواجه مجتمعنا المعاصر هي الخلل في هذه الحاجات، خصوصاً مع السيطرة الإعلامية المرئية المطلقة بشكل خاص، بحيث أصبح التلفزيون وما في حكمه المحرك لمتطلبات المجتمع العقلية والروحية والترفيهية والاجتماعية.
إن النظر إلى المرحلة الحالية التي نعيشها اليوم في إعلامنا المرئي بشكل خاص والتسابق المحموم على تقديم البرامج والمسلسلات الرمضانية يتطلب منا إعادة النظر في ذلك لأن الأصل في شهر رمضان الكريم وفي دورته السنوية توفير دورة إيمانية مكثفة تتزود منها النفس زادها الروحي للعام كله. هذا التزود الذي يشمل جميع المسلمين في بقاع الأرض خلال فترة زمنية محددة يشتركون فيها جميعهم كلٌ حسب استطاعته ومقدرته، لهذا فإن المسلم يراوح في هذا الشهر الفضيل بين أنواع من العبادات من الصيام والقيام والصدقة والزكاة والاعتكاف وقراءة القرآن، وإذا سمحت الفرصة بأخذ عمرة وغيرها من العبادات التي تقوي الإيمان وتكون عبارة عن محطة أساسية يتقوى فيها الإنسان وتكون له عونا بعد الله - سبحانه وتعالى - لبقية أشهر العام.
إن كل هذه العبادات المفروضة والمتأكدة والمستحبة في هذه الشهر الكريم تُحدث تربية وجدانية وتزكية روحية متوازنة في بناء شخصية الإنسان، لهذا ختم الله الصوم بقوله: ''لعلكم تتقون''، والتقوى أبرز ثمرات الصوم، وغاية الكمال للجانب الروحي.
إن ما نشاهده اليوم من تسابق محموم بين القنوات الفضائية في تقديم مختلف المسلسلات والبرامج والمسابقات أبعد ما يكون في مجمله مع بعض الاستثناءات القليلة عن الهدف الرباني من جعل شهر رمضان تزودا وتقوى وبناء للروح الإنسانية السوية، أغلبية القنوات تغرق وتُغرق في الإمتاع واللهو الذي يصل ـ مع الأسف الشديد - في بعض الأحيان إلى المحرم، صحيح أننا نحتاج إلى شيء من الترويح والنقد الاجتماعي الهادف وكنوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال طرح بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية وإبراز بعض السلوكيات الخاطئة في ممارساتنا اليومية في المنزل والشارع والمكتب والمتجر واستثمار وقت ما بعد الإفطار لمثل هذه البرامج بسبب وجود أغلبية الأسر في بيوتها، وهو ما تعودنا عليه منذ سنوات طويلة من أيام الطرح الاجتماعي التثقيفي الهادف للشيخ الفاضل علي الطنطاوي - رحمه الله - في برنامجه الشهير ''على مائدة الإفطار''، الذي كان عبارة عن رحلة إذاعية ثم تلفزيونية لمختلف شؤوننا بشكل سلس ومحترم، وكذلك البرنامج الشهير الآخر ''أم حديجان'' لعبد العزيز الهزاع - متعه الله بالصحة والعافية، هذان البرنامجان مع اختلاف طريقة طرحهما إلا أنهما يلامسان مشاكلنا الاجتماعية بشكل مباشر دون الإخلال بقيمنا الإسلامية ودون الإساءة أو سوء استغلال وقتنا وجهدنا ومالنا مثلما يحدث اليوم.
إن المتابع للقنوات الخليجية بشكل خاص وبعض القنوات العربية بشكل عام يكاد يجزم أن هدفها إلهاء الإنسان عن العبادة والتزود في هذا الشهر الفضيل، فكل قناة تعلق على قناتها والقنوات الأخرى وفي مختلف وسائل الإعلام عن أفلامها ومسلسلاتها وبرمجها ومسابقاتها بحيث لا تترك للإنسان فرصة للتعبد، فكل نصف ساعة برنامج أو مسلسل، والأمر الذي يحزن مع كل هذا الاختناق الإعلامي نوعية المسلسلات ومواضيعها، فجميعها، إلا ما رحم ربي، أصبحت تبرز الفنانة والفنان الخليجي بشكل مبتذل، فالخدود تسمن كل عام والشفايف تنافس شفاه النياق كبراً والأجسام أشبه بالأجسام العارية واللغة الماجنة والميوعة الظاهرة أصبحت هدف المعد والمنتج والمخرج والممثل وربما المشاهد، هذه التصرفات التي لم نألفها في مجتمعاتنا ولا نراها بشكل مباشر أصبحت تعطي الانطباع بأن هذا هو المجتمع الخليجي أو ربما السعودي على أساس أن أغلبية القنوات تركز على المجتمع السعودي وتحرص على ساعات البث التي تتناسب ووقته.
حقيقة أتألم ويتألم معي الكثير من محبي هذا البلد بسبب مثل هذه الحملة الإعلامية الهادمة وتحول إعلامنا إلى إدارة لقتل الفضيلة وبناء أجيال من الشباب من الجنسين اهتمامهم كيف يغازل ويلعب في جسده ويشوه مجتمعه، قضايا تطرح لا لتعالج مشكلة ولا تقدم حلا، إنما تعين الشيطان وأعوانه من الشياطين المربوطين في شهر رمضان في الاستمرار في احتناك ذرية آدم كما توعدهم عليه لعنة الله.
وهنا أقف أمام تساؤل عام هو: هل يمثل هذا الفخ الإعلامي استناداً إلى روحانية الشهر المبارك أم أنه ينتج عزلاً شعورياً للناس عن معاني الصوم ودلالات شهر الصيام وإغراقنا جميعاً في بحر من الإلهاء تحرمنا من فرصة التزود الروحاني في هذا الشهر الفضيل؟ وبهذا يمر الشهر بأقل أثر في نفوس عزلت عن معاني الشهر وسبب تحديده بشهر الصوم والتزود بالعبادات وحجب عن مقاصده، وبذا نظل نعيش افتقاراً روحياً، وجدباً نفسياً لن تعوضنا فقده كل مظاهر الترفيه وجهود التنمية والبناء، لأن الإخلال في البناء الإنساني المتوازن إخلال في روح الإنسان وعطائه واستمرار توازنه، وإذا بكينا من الخلل الذي تسببنا فيه خلال السنوات الماضية في جعل التركيز على نوع واحد من التربية وهو ما حصدنا ونحصد نتائجه فلا نجعل تركيزنا على نوع واحد مرة أخرى هو هدفنا لأن النتيجة لن تتغير وإن تغير اللاعبون والمدربون والممولون والمنهج والاستراتيجية، لأن التطرف في أي اتجاه تدمير للبناء الإنساني السليم الذي خلقنا الله - سبحانه وتعالى - عليه وهو ما أمرنا به رسولنا - عليه الصلاة والسلام - وها أنا أعيد الطرح مرة أخرى بالنص نفسه لعله يحدث أثرا إيجابيا ولو بعد حين.
وقفة تأمل:
''لا تُعلِم أهلك وولدك - فضلا عن غيرهم - عدد مالك، فإنهم إن رأوه قليلا هنت عليهم، وإن كان كثيرا لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولن لهم من غير ضعف''.