شهر رمضان .. عودة للذات مرة أخرى
حياتنا عبارة عن محطات للتزود بالوقود أو استراحات لالتقاط الأنفاس وأخذ قسط من الراحة لمرحلة جديدة سواء كانت قصيرة أو طويلة. وعندما تحدثت في مقالي السابق عن أهمية صيام وقيام شهر رمضان لبناء الروح البناء الإيماني السليم، وجعل الشهر شهر التوقف عند هذه المحطة المهمة لتغذية الروح بالصلاة وقراءة القرآن وممارسة العبادات التي تقوي الصلة بالله - سبحانه وتعالي - وأن أي محاولات للإلهاء عن هذا التوجه خسارة عظيمة لا تشابهها أي خسارة.
الحياة العملية والعبادية لها محطات من الاستراحة والتزود بالوقود، فنهاية الأسبوع استراحة عمل بعد عمل متواصل خلال أيام معدودة، كذلك الإجازات الموسمية مثل إجازات عيد الفطر وعيد الأضحى واليوم الوطني والإجازات المدرسية وغيرها من الإجازات الأخرى الخاصة والعامة، ومنها الإجازة السنوية، كلها محطات لأخذ الراحة وتجديد روح العمل والطاقة الفكرية والجسدية، ومن لا يجيد استثمار مثل هذه الوقفات نجده في الغالب قليل العطاء والتطوير وكثير الإرهاق والأمراض.
هذه الوقفات الجسدية نحتاج مثلها وقفات روحانية دينية، وهنا وضع الإسلام هذا النموذج اليومي في الصلوات الخمس والأسبوعية في صلاة الجمعة وسنوية في صيام وقيام رمضان، إضافة إلى عديد من الأيام الأخرى مثل صيام الإثنين والخميس والأيام البيض وغيرها، وكل واحدة من هذه الوقفات الروحانية تعتبر غذاء لفترة زمنية معينة يحتاج الإنسان بعدها إلى مزيد من الغذاء الروحي، ورمضان شهر يجمع بين بناء الروح والجسد، الجسد من خلال الصيام وتنظيم وقت الطعام ونوعه، والروح من خلال قراءة القرآن وأداء الصلوات المكتوبة وصلوات التراويح والقيام وإعمار اليوم والليل بقراءة القرآن والصلاة، حتى إذا ما انتهى الشهر يجد أغلبنا ممن أنعم الله عليهم بهذا الالتزام الراحة الروحية والجسدية بعد شهر من العبادة وتنظيم الأكل، وهذه الراحة والطاقة تستمر معنا فترة زمنية ليست بالقصيرة بحيث تدعمها الأعمال الصالحة التالية لها من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، حتى إذا ما بدأ الجسد والروح يفقدان هذه الطاقة يعود شهر رمضان مرة أخرى لشحن الجسد والروح بهذه الطاقة الإيمانية الربانية العظيمة.
السؤال الذي طرحته وأطرحه هنا مرة أخرى: هل كل ما يقدم في قنواتنا الفضائية من أفلام ومسلسلات وبرامج ومسابقات تساعد على تحقيق شحن الجسد والروح بهذه الطاقة الإيمانية الربانية العظيمة التي تشمل الصيام والقيام وتلاوة القرآن وتحقق العتق من النار والغفران من الله - سبحانه وتعالى - وهو الشهر الذي نكثر فيه من العلاقات الإنسانية الاجتماعية والصدقات والإحسان على الفقراء والمحتاجين، وهو تقوى لله لقوله - سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"؟
إن القراءة المتأنية لوضعنا خلال السنوات الماضية، خصوصا مع انتشار عديد من القنوات الفضائية ووجود من يحركها نحو الإلهاء، ومعالجة غياب شياطين الجن وتحريك شياطين الإنس من خلال ضخ عدد كبير جداً من الأفلام والمسلسلات والمسابقات التي تغطي كل ساعات اليوم والليل بحيث لا تعطي الفرد منا، خصوصا الشباب، الفرصة لإغماض العين، والمرابطة الدائمة أمام شاشات تلك القنوات، ويجعل الاستفادة من شهر رمضان المبارك شبه معدومة إلا من الأكل غير المفيد لبناء النفس والجسد، وبهذا يفقد الفرد ثم المجتمع الفائدة العظيمة من هذا الشهر المبارك. أسأل الله للجميع بلوغ الشهر وصيامه وقيامه، وأن يتقبله منا جميعا، ويرحم موتانا جميعا ممن حرموا نعمة صيامه، وكل عام أنتم بخير .. وشهركم مبارك.