المجتمع بين الهداية والجباية
عندما كتبت عددا من المقالات عن التغير الاجتماعي والثقافي واندفاع بعض أفراد المجتمع نحو المصالح الخاصة، وأوضحت في المقالين الأخيرين المعنونين ''أخشى ألا أخشى'' وأثر عدم الخشية في مستقبل الفكر الفردي ثم المجتمعي الذي يقاد نحو ثقافة الأخذ ثم الأخذ ثم الأخذ، هذه الثقافة فتحت الأفق حول تناولها وبعد حديث مع بعض المهتمين بالشأن المجتمعي جاءت فكرة النظرة إلى المجتمع من خلال فريقين، فريق يسعى نحو العطاء، وهذا العطاء ينطلق من قناعة المعطي أنه عطاء هداية ورحمة، ولعل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة عندما اقترح عليه العباس أن تؤخذ السدانة وتعطى لآل محمد، قال له - عليه الصلاة والسلام - إن الهداية في أن يأخذ ما يوجب عليه العطاء وهي السقاية، لأن السقاية فيها أجر الخدمة والعطاء، ونهاه عن السدانة لأن فيها الأخذ على أساس أن القادمين لدخول الكعبة في الغالب يحملون معهم الهدايا وهي ما توجب الأخذ. ومن هذين المفهومين ينظر لكل مجتمع وتقدمه وانتمائه نحو الهداية أو الجباية، بمعنى هل هو مجتمع معطاء أم مجتمع جباية، وهذه الثقافة تنعكس على سلوك الفرد ويبرز هذا الانعكاس على مختلف الظواهر الاجتماعية التي نراها ونقيس بها تقدم المجتمع أو تخلفه.
إن طغيان سلوك مجتمع الجباية على أفراده يبرز من خلال ثقافة ''الأنا'' التي يمارسها الفرد، بمعنى إذا لم تكن مصلحته هي المقدمة على العمل فإنه لا يقدم عليه، وتطور هذه النظرة إلى كل مناحي الحياة من سلوك وعمل وفعل وقول، بحيث نرى أثر ذلك السلوك السلبي في العمل والشارع والمسجد وفي حقوق الآخرين.
ولعل خير مثال يمكن تقديمه هنا، وهو سلوك شائع اليوم وتعانيه المدن والقرى ويكلف ملايين الريالات ويسبب الكثير من المشاكل البيئية والصحية، هذا المثال يتمثل في عدم مبالاة الكثير منا باحترام النظافة، ونرى الكثير وهم يقومون برمي مخلفاتهم الشخصية من مركباتهم وفي كل الطرق، وكذلك الحال لمخلفات منازلهم، فكل فرد تراه يخرج كل مخلفاته المنزلية خارج المنزل وفي كل وقت دون الشعور بالمسؤولية نحو جيرانه وحيه ومدينته، وهو ما يؤدي إلى تراكم النفايات، وهو ما لا نراه في العديد من دول العالم المتحضرة وغير المتحضرة، وهو أيضا سبب في استمرار أزمة النظافة وتراكم النفايات التي نراها في مدننا كل عام، هذا السلوك الفردي أيضاً تحول وأثر في بقية أعمالنا العامة والخاصة وأصبحت الجباية هي هدف كل أو أغلبيتنا بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو أيضاً ما أثر في تنمية وطننا الغالي، وأدى إلى الكثير من السلبيات التي نراها اليوم في أعمالنا، هذه الثقافة التي أكد العديد من الدراسات والأبحاث أنها أحد أهم عوامل سقوط الأمم وتخلف المجتمعات، وهو واقع يؤكده ما نراه اليوم في العديد من الدول المتخلفة التي يكون سبب تخلفها هو انصراف أفرادها وأبنائها إلى مصالحهم الخاصة، وعدم اهتمامهم بدولهم ومجتمعاتهم، وهذا يبرز في كل التصرفات الصغيرة والكبيرة وفي مختلف مناحي الحياة، وهو ما يؤثر في تحقيق الولاء الوطني والعطاء التنموي.
إن الحاجة إلى تعزيز الانتماء الوطني والحفاظ على اللحمة الوطنية واستمرار التطوير والنمو والاستقرار أمر أصبح مقلقا، نظراً لما تتعرض له المنطقة العربية بشكل خاص وعالمنا الإسلامي بشكل عام من عواصف تخريبية بين الربيع والخريف والفوضى الخلاقة التي لن تستطيع أن تحقق أهدافها إذا حافظنا على قوتنا ووحدتنا الداخلية، هذه القوة والوحدة التي إذا لم نعالج خللها المعروف بثقافة الجباية وتحمل كل واحد منا ومن موقعه الرسمي وغير الرسمي وعملنا من أجل تطوير ثقافة البناء والتطوير المبنية على أهمية العطاء للوطن بالعمل الجاد وتطوير مختلف متطلباته وتفعيل دور المشاركة الجادة والتأكيد على أهمية العطاء والأخذ مقابل هذا العطاء دون إضرار بمستقبل التنمية وأهدافها، ولهذا لو استطاع كل واحد منا أن يغير من نفسه وأسرته وعمله والدفع بهم نحو الإصلاح والتطوير لصلح وعولج الكثير من مشاكلنا التي نراها اليوم، ولحققنا الازدهار الاجتماعي والاقتصادي والأمني لوطننا المملكة العربية السعودية، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
وقفة تأمل:
''وَما الحَربُ إِلا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم
كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها
قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ''