المرحلة تتطلب كلية للدراسات الحكومية

ها أنذا أكتب مرة أخرى عن ضرورة إنشاء كلية للدراسات الحكومية. وتزداد أهمية إنشائها في ظل الخطوات الإصلاحية الجبارة التي يقودها الملك سلمان حفظه الله. هذه التغييرات الإدارية وما سيتبعها من تطوير في جميع مرافق الدولة وإعادة هيكلة نظام الإدارة الحكومية يتطلب إعداد جيل من القيادات الحكومية على قدر كبير من التأهيل، وأبحاث ميدانية، ودراسات استشارية ورصد للرأي العام واستشراف للمستقبل والتنبؤ بالتحولات الداخلية والإقليمية والعالمية. فالعمل الحكومي منظومة متكاملة ولا يمكن تحقيق أي تقدم في مجال الإصلاح الإداري إلا من خلال دراسات استراتيجية شاملة تعزز التنسيق وتكون بمنزلة بوصلة توجه الجهود الحكومية. وهنا لا بد من توضيح أن الجانب النظري والتراكم المعرفي لا تقلان أهمية عن القرارات التنفيذية والممارسات المهنية. إذ إن النظرية هي الإطار الفكري والبعد الفلسفي الذي يفسر الوضع الراهن ويوجد التصور المستقبلي لما ينبغي أن تكون عليه الأمور. والعمل دون إطار فكري واضح المعالم لا يرتكز على الدراسة والتمحيص هو عمل عشوائي ارتجالي يخضع للتجربة ويحتمل الكثير من المخاطرة ويوقع في أخطاء جسيمة. وعلى أن التنفيذ العملي وسرعة الإنجاز مطلبان اجتماعيان لهما صداهما الشعبي، إلا أنهما ليس بالضرورة أن يتمتعا بالاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وعندما يكون القرار الحكومي ردة فعل آنية لمعالجة المشكلات هنا وهناك يكون الأمر مرهقا ويستنزف الجهود والموارد. الحديث هنا ليس عن القرارات السياسية والتوجهات العامة ولكن في تنفيذ تلك السياسات التي تتطلب أن تتحول إلى مشاريع وخدمات على أرض الواقع. فتحقيق الإرادة السياسية يتطلب إدارة كفؤة وفاعلة ولديها القدرة على الاستجابة لمطالب المواطنين. هذه حقيقة مهمة قد تغيب في خضم حماس البيروقراطيين وسعيهم للحصول على مخصصات مالية دون ربط ذلك بالتأثير النهائي والمنفعة الاجتماعية والاقتصادية المرجوة. هذا النمط الهرمي في اتخاذ القرار يكون باتجاه واحد دون تغذية عكسية راجعة مبنية على معايير ومؤشرات للأداء يستغله البيروقراطيون في اختطاف القرار الحكومي واختزاله في نواحٍ فنية إدارية بحتة دون الأخذ بعين الاعتبار الاحتياج الفعلي للسكان. ويزداد الأمر سوءا في ظل النهج المركزي الشديد الذي يقضي على المبادرات المحلية في المحافظات والمناطق وتصبح الهيئات المحلية مسلوبة الإرادة لا حول لها ولا قوة. لكن كيف السبيل لمعرفة ما ينبغي عمله؟ وما الجوانب الحرجة في العمل الحكومي؟ إذا لم تكن هناك نظرة شاملة وعميقة للنظام الإداري الحكومي والانتقال من التحليل الجزئي الذي يدور في دائرة ضيقة من التحسينات الإدارية الإجرائية إلى التحليل الكلي الذي يتناول إعادة هيكلة صناعة القرار الحكومي وتوزيع المهام والمسؤوليات والصلاحيات وتنسيق العلاقة بين الهيئات المركزية ومجالس المناطق والمحافظات والبلديات. على سبيل المثال هناك أزمة في إدارة المدن وضعف في الصلاحيات الممنوحة لمجالس المناطق ما يسبب تعطيلا لجهود التنمية المحلية، والأمر الآخر تفويت الفرصة لتضييق نطاق الإشراف الذي يعزز كفاءة نظام التحكم والسيطرة للسلطة المركزية. هذه الموضوعات وغيرها لا يمكن إدراكها إلا من خلال كلية متخصصة تعنى بدراسة الوضع الراهن للنظام الحكومي وتحليله ورصد التجربة الإدارية الوطنية وتوثيق الخبرات التراكمية ومن ثم العمل على تطوير برامج أكاديمية ومناهج تعليمية تسهم في إعداد وتأهيل القيادات الحكومية الشابة بما يحقق تطلعات القيادة السياسية. ستظل البيروقراطيات أقل قدرة على استيعاب التوجيهات السياسية بسبب المركزية الشديدة التي تثقل كاهلها بأعباء ليست من اختصاصها ولا اهتمامها. ومع ذلك فالأمور تسير كما العادة دون التوقف للحظة واحدة. ويظل التساؤل، هل النسق الإداري الحكومي يحقق الكفاءة والفاعلية في توفير الخدمات العامة؟ والأهم هل يدفع ذلك نحو تحفيز التنمية المحلية؟ ولا شك الفكر الإداري والأسلوب القيادي التحويلي للملك سلمان ونائبيه هو ما يشجع على طرح مثل هذه التساؤلات العميقة والمهمة والحساسة. فأول مراحل حل المشكلة هو إدراكها والاعتراف بها. وهذا هو الدور المهم الذي ستلعبه كلية الدراسات الحكومية المقترحة. إلا أن التحدي الأكبر في استيعاب فكرة إنشاء الكلية هو سيطرة اعتقاد خاطئ لدى شريحة كبيرة من المسؤولين في أن القطاع الخاص هو من يقود التنمية الوطنية، وحجتهم في ذلك أن القطاع الخاص أكثر كفاءة مقارنة بالقطاع الحكومي. إلا أن ذلك فيه خلط بين مفهومي التوجيه والتجديف، فالحكومات في جميع الأنظمة حتى الرأسمالية مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا هي من تدير الاقتصاد، وتحمي حقوق المواطنين، وتحقق الأمن والسلم الاجتماعيين. ولذا لم يكن مستغربا أن يكون في تلك الدول كليات متخصصة في الدراسات الحكومية وقد يكون من أشهرها كلية كيندي للدراسات الحكومية. لقد أصبح من الضروري جمع تخصصات الاقتصاد والسياسة والإدارة العامة تحت مظلة كلية واحدة، فذلك يتناسب مع طبيعة القضايا التنموية الوطنية التي أصبحت أكثر تعقيدا وتستلزم دراستها من زوايا متعددة. كما أن تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة تتطلب بناء القدرات المحلية وأهمها قيادات مؤهلة لصياغة وتنفيذ الاستراتيجيات التنموية المحلية. إنه عهد الملك سلمان ذو الخبرة الثرية في العمل الحكومي وهو من نستلهم منه الأفكار التطويرية للقطاع الحكومي كقاطرة للتنمية الوطنية. ولا يمكن تحقيق تطور ملموس في المجال الحكومي دون دراسات متخصصة وتأهيل موارد بشرية لتنفيذ رؤية الملك سلمان الإصلاحية الجسورة والحازمة. ويعد إنشاء كلية للدراسات الحكومية إحدى الركائز الأساسية لتحقيق ذلك. فالكلية المقترحة ستكون تجسيدا لرؤية وتجربة الملك سلمان في العمل الحكومي وجسرا نعبر من فوقه نحو مستقبل تكون فيه الخدمات الحكومية أكثر وفرة وجودة في الإنتاج والتوزيع. هكذا تكون بيئة العمل الحكومي محفزة وموجهة للقطاعين الصناعي والتجاري لتنقل السعودية إلى مصاف الدول الصناعية وتحقق تنوعا في مصادر الدخل من خلال إطار استراتيجية وطنية يلتزم بها جميع الأطراف ومكونات المجتمع لتنفيذها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي