من أين يأتي التطرف؟

ظهور ممارسات التطرف من عدمه ليس هو المشكلة الحقيقية، فالإنسان لا يستطيع أحد أن يحد تفكيره، أو يسيطر على توجهاته وتحليلاته، لكن المشكلة تكمن في وجود حواضن فكرية تنتج وتؤصل لمبادئ الإقصاء والكراهية والتكفير، فوجود تيار تكفيري إرهابي يقتل المختلفين معه في المذهب أو الدين أو التوجه السياسي هو نتاج وليس أصل المشكلة. القصة دائما ما تبدأ بفكرة إقصائية، يجد صاحبها بعض المريدين الذين عادة ما يكونون مراهقين أو جهالا أو أصحاب مطامع سياسية، ثم تؤصل الفكرة فكريا وثقافيا عبر كتب ومحاضرات، وتتداول بين الناس، فتجد لها مريدين ومنتفعين منها، داخليا وخارجيا بالنسبة للبيئة المنتجة لها، ثم تنتقل من جيل لآخر، ويضاف إليها وتتطور حتى تجد من يتبناها عمليا، فتخرج للناس في منعطفات تاريخية حرجة، كما ظهرت "القاعدة" في أفغانستان، ثم تطورت ومارست تطرفها بشكل خرج عن تصورات بعض داعميها، حتى وصلت إلى أحداث 9/11 في نيويورك.
عبر التاريخ، تم الاستخفاف بكل الحركات المتطرفة، خصوصا الدينية منها، لأن محاربتها قد تشكل إحراجا للبعض، فيتم تجنب الاحتكاك بها، خصوصا في بعض الظروف السياسية الممزوجة بالحروب، فتكبر فجأة لتتحول إلى بعبع يأكل الجميع، حتى من كان يتفق معها في بعض جوانبها الفكرية. اليوم مثلا خرجت "داعش" من الخلفية الفكرية نفسها لـ "القاعدة"، ولنا أن نعتبر "داعش" التطور الطبيعي لفكر "القاعدة"، وللفكر الذي أنتج "القاعدة" وللفكر الذي أنتج الفكر الذي أنتج "القاعدة". لو تتبعنا منابع المنهج الفكري لأي مبدأ أو حركة متطرفة سنصل إلى كتاب، هذا الكتاب تطور إلى كتب ونتاج فكري متتابع.
"داعش" و"القاعدة" وكل الحركات المتطرفة هي عبارة عن عارض للمرض أو المشكلة، هي نتيجة وليست سببا. وعلى الرغم من أهمية محاربة هذا العرض بالقوة، إلا أن الأهم هو تجفيف منابع هذا الوباء الفكري العفن بالرجوع للمصادر الفكرية، وللمنابر والمؤسسات التي تروج لهذه المصادر وتعطيها هالة من القداسة ثم تعيد إنتاجها وتطورها لنموذج أبشع. اليوم نجد أن معظم المنتمين للحركات المتطرفة هم مراهقون، أكثرهم لم يبلغ 20 ربيعا، ما يثبت لنا أن هذه الحركات انتقلت من مرحلة التبشير ونشر الفكر إلى مرحلة وجود حواضن لها مستقلة تعمل وتكرر هذا الفكر المفخخ، فلا حاجة لإقناع هؤلاء الصغار بالأفكار المتطرفة، فهم نشأوا وترعرعوا بين أسر تتبنى هذا المشروع والفكر النتن.
العودة لأصل المشكلة هو حل للمرض، إلا أن الأهم من معالجة المرض تحصين المجتمع ضد هذا المرض، وهذا يكون عبر مشروع ثقافي تتبناه الدولة ويكون منعكسا في جميع مؤسساتها وقوانينها، من هنا يشكل المشروع الثقافي عامل ربط بين الإنسان وحياته اليومية، فمن الطبيعي ألا يكون للأفكار المتطرفة أو العنيفة رواج بين أفراد مجتمع متحصن بقانون وممارسة ثقافية تنبذ التطرف، وإن ظهر من يحمل فكرة متطرفة، سيكون اكتشافه سهلا وبسيطا، كالنقطة السوداء على الرداء الأبيض، أما إن تكاثرت النقاط السوداء على ردائنا الأبيض، فلن نعرف من أي نقطة سوداء سيظهر العفن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي