العصا في الشعر النبطي

العصا في الشعر النبطي

تكلمنا في العدد السابق عن العصا في التراث العربي، ووعدنا القراء الكرام بتخصيص موضوع عن العصا في الشعر النبطي، إذ نجد في الشعر النبطي شواهد كثيرة على العصا تماثل ما رأيناه في الشعر الفصيح، ولا غرو في ذلك فالثقافة هي ذاتها، والشعر هو ذاته وإنما تحول في النبطي عاميا لا يتقيد بقواعد اللغة العربية التي التزم بها الأسلاف في شعرهم. وتكثر شواهد الشعر النبطي على استخدام العصا عند ركوب الإبل لحثها على السرعة في المشي والجري، ومن أقدم هذه الشواهد ما قاله الشاعر أبو حمزة العامر في قصيدته الهمزية:
أنا أبو حمزة والذي يدنى له
من خيل نجدٍ مهرةٍ شعواء
شـريتها واغليت فيها بالثمن
خمسـين ملحا جملة بعصاء

خمسين ملحا: خمسين ناقة من المجاهيم السود، يقول إنه ساقها بعصاه، وعادتهم سوق الإبل بالعصا.
وقال دباس بن راشد بن دباس في قصيدته التي يرد بها على والده:
وخلاف ذا يا راكب فوق عرماس
مامونةٍ من نقوة الهجن عيره
حمرا وهي في وقمها سن الاسداس
لاهي ترى فاطر ولاهي صغيره
لاهيب لحوح وراكبه بالعصا داس
حرم عليه الشيل كود النجيره

فهو يذكر أنه حثّ الناقة بالعصا لتسرع في مشيها.
وفي رائعة الشاعر المبدع الشجاع محمد العلي العرفج في الحنين إلى الأوطان، وقد تأمر في الجوف وحن قلبه إلى بلده بريدة، فأرسل إلى جماعته هذه القصيدة، ويذكر ضمنها عصا موسى، كما يذكر أن الناقة الصيعرية تسرع دون أن يلمسها العصا:
آه واعزاه من جفنه جفاه
جرهدي النوم على جلد الـصريم
جال عقلي واجتلدت وقمت اجول
واتقلب واجتلد كني قصيم
ذكّرن برد الشتا عـصرٍ مـضى
لذة الدنيا وجنات النعيم
لى عتن الشبط واحّمر السما
عند اهلنا كنه أيام الحميم
لو تزخرف وقتنا ذا ارتجي اللي
بالمناجا والعصا خص الكليم
آه لا واوحشتي واغربتي
مثل عبرة يونس أو غربة تميم
لي مع الويلان هيفا فاطرٍ لي
من سكَرها تجتلد قودا هميم
ما ينوش مْعَذّرَه راس العصا
صيعريه مغرم نعم النديم

وقال تركي بن حميد أيضاً:
يا راكب من فوق بَوَّاجة الخلا
على البقل ما بانت مواري فطورها
هميمٍ الى سارت جزوعٍ من العصا
خطرٍ على ركّابها كسـر كورها

فهو يذكر أن الناقة هنا لا تطيق العصا، فتسرع بكل همّةٍ قبل أن تلمسها العصا.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر بديوي الوقداني أيضاً:
يا راكب اللي ياخذ الحزم موّاج
مواج دوٍّ تاه في الغبتيني

يقصد الإبل، والدو: الصحراء، ثم يمضي في قصيدته إلى أن يقول:
يجفل ليا ما شاف ظل العصا ماج
راعيه ما يقدر يمد اليديني

وذات المعنى نجده في بيت للشاعر الأمير محمد بن سعود، غزالان المتوفى سنة 1305هـ:
هجنٍ هجاجيج هجافٍ هجاني
هن على هوز العصا ما يدانن

وقال الشاعر فهد بن سكران يذكر ركوبه فوق الناقة وأنه إذا لمسها بعرقوب رجله، أو أشار إليها بالعصا فإنها تغذ السير مسرعة، وهو معنى مماثل لما قبله:
الا واهنيي بالضحى يوم يممت
وأنا في ظهرها ضاربٍ فنتقٍ خالي
عليها خلاوي واطرد الهم بالفرج
وأجاهد همومٍ بين هارج وعذالي
الى لمسها العرقوب أو شافت العصا
غدت تطرد البيدا فديدٍ وزومالي

وكذلك المعنى نفسه يقوله الشاعر مبارك العقيلي ضمن إحدى قصائده:
فيا معتلين اكوار قودٍ سلايل
كرام النظا ما قادهن للحمل حادي
سراحيب مورات ماتداني العصا
نسل عوجي معرب الخال وجدادي

ومن استخدامات العصا -وقانا الله وإياكم من هذا الاستخدام ومتّعنا ومتعكم بالصحة والعافية وطول العمر وحسن الخاتمة- عند كبر السن يعتمدون على العصا في مشيهم، لما يعتري كبير السن من الوهن والضعف حتى يصعب عليه المشي إلا بالاعتماد على العصا، وللشاعر راشد الخلاوي قصيدة مليئة بالحكم يخاطب فيها ولده، يقول من ضمنها ذاكراً اعتماده بعد أن شاخ وكبر سنه على العصا في مشيته:
أوصيك يا ولدي وصاةٍ تضمها
إلى عاد ما لي من مدى العمر زايد
وصيّة عودٍ ثالثة رجليه العصا
وقصـرت خطاه من عقب ما هي بعايد

ومثله قال الشاعر جبر بن سيارحينما كبر سنه يشتكي لصديقه ابن دواس كبر السن وعلاماته من الشيب والاعتماد على العصا في المشي:
حط بالرجل قيد وبالركبتين
كل يومٍ بالدهن يعاجونه
والظهر قاسي ان تمجلس معه
معشرٍ في قيامه يعينونه
والعصا ثالث للمواطي بها
يقتدي من بدا الثقل بجفونه
وكذلك الشاعر عبد الله الفرج يقول ما قاله الأولون:
مثل الشباب ان فات فمن الحالات
يرجع لراعي الثالثة من عصاته

وهذا الشاعر مفرح بن مسهيه له ولد اسمه محمد، وكان الولد شجاعاً وباراً بوالديه فلما قتل الولد قال أبوه أبياتاً يرثيه بها، وكان قد كبر سنه، فاشتكى شكوى سابقيه:
يا جبال الرين ما شفتي محمد
عليك منه يا جبال ملام
يبكيه عود ثالث رجليه العصا
يكوده عقب القعاد مقام

وقال دغيم الظلماوي مثل ذلك:
مِدّه رَهَن لولاك ما قِلْت ياكليب
ولا قلت شبّ النار صـر موقدٍ لَه
يالمسك يالناريز ياعنصـر الطيب
ياعنبرٍ من داومِه ما يِمِلِّه
يابو اليتامى والعرج والمحاديب
وابوٍ لمن صار العصا ثالثٍ له

ومن الأمثال الشائعة في جزيرة العرب: جدعة عصا، ويقال: حذفة عصا، ويقال: حلتة عصا، وكلها في نفس المعنى. واستخدم هذه الكناية الشاعر خليفة الزناتي، وقصيدته تذكر ضمن قصائد بني هلال أصحاب التغريبة المعروفة:
انهزامة أبا زيد مثل جدعة العصا
وردته أسرع من رد الرحا واجتوالها

والعصا يستخدم للتأديب أيضاً، ولكن يحتاج الحاكم أحيانا إلى ما هو أشد وأقوى من العصا لتأديب خصومه، فلا بد من استخدام السيف لقتالهم وردعهم عن عدوانهم، وهذا ما قصده الشاعر الشهير بركات الشـريف في بيت من قصيدته الرائعة:
ومن لا قلط الهنديّ ووخر العصا
اصبح بذلٍ راكبٍ فوق غاربه

وقال الأمير الشاعر محمد بن أحمد السديري ذاكراً أن العصا يستخدم للتأديب:
قد قال عمرو بن العاص فيهم رايه
عبيد من هو بالعصا نادى لها

وبعض العصي تستخدم من الشوحط، وفي ذلك تقول الشاعرة مويضي البرازية، وكانت تتغنى بشعرها فمنعوها فلم تمتنع، فضربها رجل اسمه سلامة، فلما سمعت هديل حمامة قالت تخاطبها:
يا سعد عينك بالطـرب يالحمامـة
ياللي على خضر الجرايـد اتغنيـن
عزي لعينك وان درى بك سلامـه
خـلاك مثلـي يالحمامـة تونيـن
كسّر عظامي كسـر الله عظامـه
شوفي مضارب شوحطه بالحجاجين

كما يستخدم العصا من قبيل الزينة، فيمسكه الرجل بيده دون شكوى تعب، وإنما مثل مسك السبحة ولبس العباءة (البشت، المشلح) وغيرها، وهذا ما قصده الشاعر ابن عكاشه:
بالسوق وافاني حسين التهايا
طاحت عباتي والعصا عقب الأذهال

فالشاعر يمشي في السوق بكامل رونقه مرتدياً عباءته وممسكاً بعصاه، فلما أقبلت تلك الفتاة الحسناء ذهل شاعرنا من جمالها والتفت يناظرها وهي تمشي مدبرة فسقطت عباءته وعصاته. إلا إن كان شاعرنا عفا الله عنا وعنه قد بلغ من الكبر عتيّا، وأصبح يعتمد على العصا، ومع ذلك يهفو قلبه للحسناوات، إن كان ذلك وهو ما لا أظنه، فيدخل البيت في معنى سابق.
وقصة عصا موسى عليه السلام تحضر في الشعر النبطي، في استخدامات مختلفة، منها البيت الذي قاله شاعر نجد الكبير محمد القاضي ضمن قصيدة له:
شمسٍ طلع نوره على البقعة اللي
طقه عصا موسى يوم انفلق زال

وللمبدع الشاعر المتفنن ابن لعبون أيضاً في هذا المعنى أبيات ضمن قصيدة جميلة:
رحت الومه في هواهن وانطلق
مدمع لي سال من بحر غميق
ضارباته في عصاهن وانفلق
كل فرق ظل كالطود العتيق
كارع كاس الهوى لي واندفق
كاس عذري الهوى راعي الحريق.

الأكثر قراءة