أزمة الرهن العقاري والمستقبل
قبل عشر سنوات أي في عام 1998 م كان سعر النفط ثمانية دولارات للبرميل الواحد فقط في تلك السنة انخفض مؤشر سوق الأسهم السعودي 45 في المائة كنا نمر بفترة كساد وبعجز كبير في الميزنية الحكومية, وفي المقابل كانت تتمتع الدول المتقدمة بفترة طفرة لم تشهد لها مثيلا, انتشرت عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات الأمريكية مستغلين السيولة الكبيرة التي تمتعت بها الشركات الأمريكية في ذاك الوقت توسعت أمريكا بطرح شركات التقنية والاتصالات وخصوصاً شركات الدوت كوم التي كانت تتداول بأسعار خيالية مدفوعة بالحلم الأمريكي والوعود بأن العالم سيتحول إلى قرية تكنولوجية وستحقق تلك الشركات أرباحاً عظيمة تبرر أسعارها المبالغ فيها جداً.
تلاشى الحلم الأمريكي عندما بدأ العجوز آلن جرينسبان يحارب التضخم الناتج عن الارتفاع الكبير وغير المبرر لأسعار الأسهم إلى أن بدأ الانهيار وتلاشت مع الحلم الأمريكي الكثير من الشركات وماتبقى منها يتداول عند جزء بسيط من قيمته مثل شركة ياهو التي انهارت من 240 دولارا إلى حدود 15 دولارا. بدأت عمليات الإنعاش وبدأ العجوز يصرح بأنه غير راغب في دولار أمريكي قوي, وبدأ بتخفيض أسعار الفائدة على الدولار لاستمالة الاقتصاد وجعل المنتجات الأمريكية أكثر جاذبية للمستهلكين العالميين, وبدأت مع هذه السياسة مخاطر جديدة تظهر في الأفق فقاعة جديدة في قطاع آخر من الاقتصاد وهي فقاعة سوق العقار, فقد حفزت السياسة التي انتهجها الإحتياطي الفيدرالي لفائدة منخفظة في التوسع في الاقتراض لشراء المساكن ساهم في ذلك بحث البنوك التجارية الأمريكية عن مصادر دخل جديدة للحفاظ على أرباح قوية للتساهل في القيود فأقرضوا ذوي الدخل غير المستقر والذين يعملون في أعمال مؤقتة كذلك منحوا الفرد أكثر من قرض واحد ما زاد الأعباء المالية على المجتمع الأمريكي, ومع بداية ارتفاع أسعار الفوائد بدأت عمليات الفشل في سداد الديون تدب في الاقتصاد . إن أسعار الفائدة المنخفضة ساهمت بشكل مباشر في خلق استثمارات كبيرة في القطاع العقاري الأمريكي, فخلال عقود من التمويل العقاري بلغ حجم القروض العقارية بنهاية 2001 م مبلغ ستة ترليونات دولار وخلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات تضاعفت تلك القروض إلى أن بلغت 12 ترليون دولار بنهاية 2006. ولكي يتم تداول تلك القروض العقارية تم توريقها وخرجت إلى مستثمرين خارج أمريكا مدعومة بأصل له قيمة حقيقية وهو المنزل غاضين النظر عن السعر الحقيقي للمنزل ومصادق عليها من مؤسسات التقييم الائتماني العالمية على أنها أوراق تتمتع بكفاءة ائتمانية عالية. بدأ العرض يزداد في المنازل من جراء التوسع في القروض العقارية ، ولأول مرة خلال سنوات طويلة يشهد الربع الأول من عام 2007 انخفاضا في مبيعات المنازل في أمريكا, وبالتالي بدأت أسعار المنازل في الانخفاض ما أدى إلى ترنح تلك الأوراق المالية وعدم القدرة على تسعيرها كما حدث لأول مرة عندما فشل بنك بيرستيرنز في تسعيرها, وكانت أول ضحية شركة نيو سينشري فاينانشيال الأمريكية التي انهارت في نيسان (أبريل) 2007 معلنة انطلاق الأزمة.
إن أزمة الرهن العقاري تتشارك مع الأزمات السابقة في الشكل المتمثل في بناء فقاعة وانفجرت, فهذا بالفعل ما حدث في الانهيار العظيم Great Depression عندما صعد مؤشر داو جونز من 36 نقطة إلى 360 نقطة خلال ثماني سنوات وانهار من قمته في تشرين الأول (أكتوبر) 1929 ميلادية، كما أن انهيار الإثنين الأسود الذي حدث كذلك في تشرين الأول (أكتوبر) ناتج عن سوق الأسهم, إلا أن مشكلة الرهن العقاري بدأت ولأول مرة من الاقتصاد الحقيقي Real Economy ومنه توسعت وأصابت القطاع المالي وهو عصب ومحرك أي اقتصاد كما قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي إنه غير قلق من الانهيار في سوق الأسهم بقدر ما هو قلق من توقف الائتمان. فإذا فقدت الثقة بين البنوك بعضها بعضا وبينها وبين عملائها فإن عجلة الاقتصاد ستقف لا محالة.
لماذا نعاقب في الدول الناشئة النامية بأخطاء الغير؟ الصين والهند ودول الخليج لم تتذوق بعد طعم الطفرة الاقتصادية التي دبت في عروقها مطلع هذا القرن فانشغلت في أوله بسداد التزاماتها وبناء أجزائها المنتجة, وتمكنت في آخره من بناء فوائض مالية خصوصاً دول النفط أو ماتسمى بـ Petro Dollar ولم نحتفل طويلاً بتقرير ماكينزي الذي صدر قبل ثلاث سنوات تقريباً, وذكرت فيه أن هناك أربعة لاعبين جدد في الاقتصاد العالمي هم صناديق التحوط وصناديق الحقوق الخاصة Hedge and Private Equity Funds والتي تعاني كثيراً أيامنا هذه والبنوك الآسيوية Asian Banks خصوصاً الصين ودول النفط Petro Dollar Countries وبشكل خاص دول الخليج. إن الدول الناشئة ليست سبب المشكلة, ولكن أصيبت بشكل مباشر أو غير مباشر بمخلفات هذه المشكلة, فالاقتصاد الصيني خفض من توقعاته للنمو المستقبلي وكذلك الحال في جميع الدول الناشئة فسلعها مثل النفط ومنتجاتها سيقل الطلب عليها من جراء الكساد في أكبر الاقتصاديات المستهلكة في العالم وهي إقتصاديات الدول العظمى بشكل عام وأمريكا التي تستهلك نصف ما ينتجه العالم تقريباً بشكل خاص. لقد أصابتنا الأزمة في نفطنا وهو منتجنا الاستراتيجي الوحيد هنا في المملكة الذي تشكل إيراداته تقريباً 90 في المائة من إيرادات الدولة, فهو سلعة رئيسية يحتاج إليها العالم على الأقل في المدى المنظور وقبل أن يطور بدائله شاهدناه ينهار من أعلى مستوى وصل إليه في تموز (يوليو) القريب وهو 147 دولاراً للبرميل إلى 40 دولار تقريباً, إن مثل هذا الانهيار الكبير والسريع لا يحدث إلا في السلع الكمالية, والنفط سلعة أساسية, وهو تعبير حقيقي لكبر حجم المشكلة والتوقعات المتشائمة جداً للمستقبل على الأقل القريب. كذلك ضربنا إعصار الانهيار في أسعار البتروكيماويات ونحن نخطط وننفذ بقيادة شركة عملاقة كشركة سابك أن نكون لاعبين رئيسيين في تلك الصناعة. وعلى الرغم من أننا لسنا في عقر دار المشكلة إلا أن أسواق الأسهم في الدول الناشئة بشكل عام وسوقنا بشكل خاص انهار منذ بدأت الأزمة بشكل أكبر من انهيار أسواق الدول الأعضاء في الأزمة لا غرابة و90 في المائة من المستثمرين في سوقنا أفراد تدفع قراراتهم الاستثمارية مشاعرهم فيشترون السوق في كانون الثاني (يناير) 2006 على مكرر أرباح 44 مرة ونسبة أرباح موزعة تحت 1 في المائة ويبيعون السوق الآن على مكرر أرباح عند عشر مرات وأرباح موزعة تفوق 5 في المائة.
المستقبل والعلم عند الله ، أعلنت معظم الدول العظمى دخولها مرحلة الكساد وصدرت بيانات صندوق النقد الدولي السلبية عن تلك الاقتصاديات في المقابل ستحافظ الدول الناشئة على معدل نمو أقل من السنوات الماضية حيث خفضت الصين من توقعاتها للنمو في عام 2009 من 11 في المائة إلى 8 في المائة. هذا دون الأخذ في الاعتبار احتمال حدوث انهيارات جديدة إما في القطاع المالي أو العقاري أو قطاع شركات الائتمان والتي بالتأكيد ستعاني حالات التأخير أو التخلف عن السداد. أننا نشاهد دول العالم تعاني مشكلة شح السيولة وفقدان الثقة الائتمانية مما حدا بكثير من المؤسسات المالية إلى رفع أسعار الديون لتغطية المخاطر أو رفض الكثير من القروض إما لشح السيولة لديها أو لارتفاع المخاطر الائتمانية لعملائها أو مشاريعهم الاستثمارية. إن هذا التوجه سيؤدي إلى الاستمرار في الانخفاض في قيمة الأصول سواء العقارية أو الرأسمالية مثل أسعار أسهم الشركات المسجلة في السوق. كما ستؤدي المشكلات التي يعانيها سوق الائتمان إلى توجه الكثير من أصحاب الأعمال وملاك الشركات والمشاريع في تلك الدول إلى عرض جزء من شركاتهم على وجه الخصوص الشركات الخاصة إلى بيع جزء منها لخلق سيولة وتمويل مشاريعها التوسعية أو الوفاء بديونها قصيرة الأجل.
من خلال ماذكرناه أعلاه ، إن مايحدث ليس بجديد, بل هو كساد شهده العالم خلال القرن الماضي أكثر من مرة والمستفيد هو الذي يستثمر ما ينتجه هذا الكساد من فرص, كما عمل رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد عندما استثمر في الثمانينيات فترة انهيار النمور الآسيوية وبنى المطار والحي الدبلوماسي في كوالالمبور بأقل التكاليف والأمثلة كثيرة. إننا ولله الحمد نستمتع بسيولة عالية خلفها الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال السنوات الماضية والسياسة التوسعية للدولة في التوسع في الإنتاج . إن التحدي الكبير هو استثمار تلك الفوائض لتحقق لنا التنوع في مصادر الدخل واستقطاب التقنية والمعرفة. إن هذا هو الوقت الأمثل لاستثمار تلك الفوائض المالية الكبيرة في الاستحواذ على حصص استراتيجية في شركات أمريكية وفي أصول لن تتلاشى أبداً كالعقارات الاستراتيجية. أما القطاع الخاص والمواطنون فنحن ولله الحمد نعيش في دولة تحتفظ باحتياطيات مكتشفة تقدر بـ 260 مليار برميل من النفط, وكما ذكر وزير النفط هناك 100 مليار أخرى غير مكتشفة. إن هذا الكم الهائل من النفط سيغطي مصروفات الدولة حسب المتوقع صرفه هذا العام المقدر تقريباً بـ 550 مليار ريال لمدة تفوق الـ 90 وقد تتعدى 150 عاماً, ناهيك عن الثروات الأخرى مثل الدخل المحقق من زوار الحرمين الشريفين والثروة المعدنية وغيرها من الموارد التي حبانا الله سبحانه بها. إن التوسع ببناء البنية التحتية التي انتهجتها حكومة خادم الحرمين الشريفين خلال السنوات الماضية من خلال المشاريع الجبارة التي أعلنت عنها والتأكيدات الصادرة من وزير المالية بتوسع الحكومة في مصروفاتها العام المقبل لهي الوسيلة الأمثل والاستراتيجية الأكفأ في بناء المجتمع وبأقل التكاليف. فلنعمل بجد ولنستثمر في وطننا الغالي ولننظر للمستقبل بكل تفاؤل وثقة في ما تتخذه حكومتنا الرشيدة من خطوات ستؤتي ثمارها ـ بإذن الله ـ في المستقبل القريب.