إشكالية التحليل في السياسة الدولية (1)
يعايش التحليل في السياسة الدولية لدى أغلب مثقفي الوطن العربي (غير المتخصصين) أزمة حقيقية. بحيث أصبح لهذه الأزمة انعكاسات و إرهاصات وتأثيرات سلبية في غالبها. ولاسيما تلك السلبيات التي ترتبت على توجيه وتثقيف - وحتى التأثير في- الرأي العام، بشكلٍ لا ينسجم مع أصول وعلمية التحليل. وكذلك السلبيات التي أثرت في هؤلاء المثقفين أنفسهم، والتي أدت بدورها إلى عدم فهم وتفهم طبيعة ومدلولات الأحداث الدولية بشكل عام. وهذا ما جعل ساحة تحليل العلاقات الدولية - لدينا- تزخم اليوم بعديد من التحليلات والاستنتاجات التي تكون في أغلبها مخالفة للصواب، والتي تكون سلبية استنتاجاتها لا تخدم ولا تصب في الصالح العام. فما الأسباب الرئيسة لهذه الأزمة؟ و ما مدلولاتها وأبعادها الفعلية؟
قد يعود السبب الأول لتفاقم هذه الإشكالية، هو كون الشأن في العلاقات الدولية – وفي السياسة بشكل عام- قد أصبح مشاعاً بشكل كبير من خلال الأخبار التي تبث – من أغلب الفضائيات- على مدار الساعة. وكذلك بسبب كثرة و ازدياد شعبية البرامج الحوارية والتي في الغالب تدور مواضيعها حول الأحداث السياسية الراهنة.
هذا القول بالطبع لا ينفي الدافع الحقيقي والسبب الرئيسي الثاني لكل هذا. ألا وهو الأحداث الساخنة (السياسية) نفسها، والتي تؤلب عامة المثقفين لتتبعها و تحليلها. فلولا وجود وتزايد تلك الأحداث التي عايشتها المنطقة (ابتداءً من الإشكاليات المتعلقة بمشكلة الشرق الأوسط الأولى "القضية الفلسطينية"، وانتهاء بأحداث وتوابع الحادي عشر من سبتمبر)، لما أصبح هناك مشاعية للتحليل.
يضاف كذلك – المتهم أو- المسبب الرئيسي الثالث وهو غياب مشاعية (وتعميم) تعليم وتعلم "أصول العلاقات الدولية". صحيح أن هناك عددا كبيرا من الأقسام التي تدرس العلوم السياسية (وبالتالي العلاقات الدولية) في عديد من جامعات الوطن العربي، وصحيح أن عددا لا بأس فيه منها يدرس مادة "العلاقات الدولية" لجميع طلابه؛ إلا أن أغلب خريجي الجامعات العربية لم يدرسوا (أو حتى يسمعوا عن) أية مادة تدرس "أصول العلاقات الدولية".
بجانب هذا يبرز – المتهم أو- المسبب الرئيسي الرابع، والمتمثل في ضعف مساهمة وسائل الإعلام في تثقيف العامة في هذا الشأن. حيث أن أغلب وسائل الإعلام – بما فيها الصحف- العربية لا تساهم بالقدر الكافي في تثقيف العامة بالأصول "العلمية" للتحليل في الشأن الدولي. بل إن وسائل الإعلام ولاسيما الفضائيات تعد وتشجع للبرامج الحوارية التي تغيب العلمية عند اغلبها (وليست جميعها) والتي أسهمت بدورها – كما أسلفنا- في التأثير العكسي في عامة المشاهدين. يبقى لوسائل الإعلام من الإيجابيات في هذا الشأن ما أبرزه و يبرزه – ولو بشكل متواضع ومقصر في بعض الأحيان- الزملاء المتخصصين في العلوم السياسة والعلاقات الدولية، سواءً كان ذلك من خلال مشاركاتهم أو من خلال كتاباتهم في هذا الصدد. والذي تحاول أن تسهم فيه هذه المقالة والمقالات اللاحقة؛ مع اعتراف كاتبها بتقصيره - وربما تقصير زملائه العرب- في المساهمة العامة في هذا الشأن.