تأملات في القياس والتقويم

تكمن أهمية القياس والتقويم في كونه الأداة الرئيسة لصنع القرار السليم في مناحي الحياة كافة، وذلك أن اتخاذ القرار والحاجة إليه أمر لا ينفك عن حياة الأفراد والمجتمعات، بدءاً من ممارستنا الحيوية اليومية مروراً بخياراتنا المؤسسية وانتهاءً بقراراتنا المصيرية.
وإن المعطيات الثقافية الراهنة والانفجار المعلوماتي والعصر العولمي تحتم على مؤسساتنا التعليمية الاهتمام بالكيف والجودة، ولاسيما التعليم يتصدى للاستثمار الأهم وهو الاستثمار في العنصر البشري، الأمر الذي يفرض علينا إيلاء القياس والتقويم جل اهتمامنا، ولاسيما وشرعنا يأمرنا بالجودة والإتقان.
والمتأمل في سيرورة الحياة وصياغة فلسفة الوجود في شرعنا الإسلامي يلحظ بجلاء الغائية والهدفية المختتمة بالمحاسبة والتقويم وبين الغائية والتقويم مساحة للعمل والجودة والإتقان، وهذه المنظومة ثلاثية الأبعاد (الغائية، الجودة، التقويم) جزء لا يتجزأ من الحس الإسلامي.
لقد خلق الله الإنسان لحكمة بالغة هي الابتلاء (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور) (الملك: 2)، كما أوضح الله عز وجل الهدف من وجود الإنسان وهو النجاح في الابتلاء المتمثل في تحقيق العبادة، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56) هذا من جهة أصل الوجود.
ومن جهة التعامل مع الأفراد والأمم والأفكار فقد جاء الإسلام بمنهجٍ علميٍ رصين يقوم على أساس العدل والإنصاف حتى مع الأعداء، فلقد تواترت نصوص الوحيين القرآن والسنة، على أهمية العدل والموضوعية والبعد عن الذاتية في إصدار الأحكام تجاه الآخرين. ومن ملامح هذه الموضوعية والبعد عن الذاتية التي أمر بها الإسلام ما يلي:
1 – أهمية التثبت (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (الحجرات: 6).
2 – البُعد عن الظن، ذلك أن الظن لا يفيد اليقين ومن جسيم الخطأ بناء الأحكام أو اتخاذ القرارات بناء على مصادر ظنية غير قطعية. (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) (الحجرات: 12).
3 – الأمر بالقسط والعدل حتى مع الأعداء، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8).
وهذه إشارات فيما يتعلق بالحكم على الأشخاص وتقويم الأفكار وصنع القرار، أما فيما يتعلق بالقياس المادي الطبيعي، فإن المتتبع لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد عشرات النصوص في ذلك من إنزال الرزق بقدر معلوم، (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) أي بقدر يمكن أن يفهم مقداره وكمه، ومن ذلك تقدير منازل القمر وعدة الشهور وأنصبة الزكاة والفرائض وأحكام المواريث وغيرها.
وعلم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل يعتبران أنموذجاً لتطبيقات علم القياس والتقويم، فمن خلالهما يتم تحويل الصفات (ألفاظ الجرح والتعديل) إلى مراتب وأرقام، كما مارس المحدثون النقد الخارجي (المحكات) لدراسة سند الحديث، ومارسوا النقد الداخلي (المعايير) لدراسة متن الحديث.
يقول أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً، وهو مسيحي متفرغ لأخبار الكنيسة الأرثوذكسية في كتابه مصطلح التاريخ بعد أن ذكر وجوب التحقق من عدالة الراوي يقول: (ومما يذكر مع مزيد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب).
والمتأمل في حياتنا اليومية، وعلاقاتنا الاجتماعية، ومشاريعنا العملية والوظيفية، يجد خللاً واضحاً في تقويمنا لأنفسنا، لعلاقاتنا، ولمن حولنا، بل تعدى ذلك إلى مشاريعنا، إن تقويمنا بحاجة إلى تقويم! أتريدون الدليل؟ فهاكم هذه الصورة التي نراها صباح مساء في واقعنا المعاش أنت ونحن جميعا نرى كيف إذا اختلف اثنان في قضية ما أو مسألة يتسع الخلاف فيها، نرى كيف يناصب كل منهما الآخر العداء، وكيف أن كلاً منهما يسعى جاهداً لإظهار معائب الآخر ولسان حاله وحال كثير منا (أنت صديقي.. إلا إذا خالفتني فأنت عدوي) وهذا الأمر مستكنٌ في نفوس كثيرٍ من الناس وشعارهم: لنا الصدر دون العالمين أو القبر!
وإن الناظر إلى التقويم في ممارساتنا التربوية يجد الخلل فيه نابعا من عدم وضوح الرؤية وغياب الإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة هي: لماذا التقويم؟ ماذا نقوم؟ كيف نقوم؟
وفي تقديري لو طرحت هذه الأسئلة على شريحة كبيرة من العاملين في الميدان التربوي لرأيت كيف هو اضطراب الإجابات وتباينها بما يشعر بعدم وضوح الرؤية في هذا الجانب.
كما أن هناك جانبا من جوانب التقويم يجب تفعيله على المستوى الوطني وهو التقويم للمحاسبة والمساءلة إذ يعتبر التقويم أهم أدوات المساءلة والمحاسبة، بل لا يتصور إقامة نظام للمساءلة والمحاسبة دون الاستعانة بأساليب وأدوات القياس والتقويم.
والمحاسبة والمساءلة مبدأ أصيل في التشريع الإسلامي، وفي خطبة عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم). والمساءلة والمحاسبة عمليةٌ مهمة في ضبط الممارسات والإجراءات، كما تُحدد المسؤوليات والمهام بما يضمن تحقيق الكفاءة والجودة في جميع أجهزة الدولة. كما يعتبر البُعد الاستثماري للتربية من أقوى مسوغات حضور التقويم للمحاسبة والمساءلة .
لقد حان وقت التقويم للمساءلة والمحاسبة، ولاسيما بعد أن أظهر المركز الوطني للقياس والتقويم مدى هشاشة مخرجات التعليم العام ومدى تضخم الدرجات وتورم التقديرات!
ولعلنا في هذه المقالة نؤكد الإشادة بالمركز الوطني للقياس والتقويم وتجربته الرائدة في مجال بناء الاختبارات المقننة سواء كانت اختبارات القدرات أو الاختبارات التحصلية، وفي تقديري أن المركز يعتبر أنموذجا يحتذى به على مستوى العمل المؤسسي في وضوح الرؤية ودقة الإنجاز والعمل بعيداً عن صخب الإعلام أو تضخيم الحقائق، وحسبكم أن المركز يعد الوحيد من نوعه على مستوى العالم العربي، بالرغم من أنه هناك دول عربية متقدمة في هذا المجال لكنها ما زالت تراوح في دائرة التنظير .
لقد استطاع المركز إخراج علم القياس والتقويم من دهاليز النظرية إلى عالم التطبيق والممارسة فشكراً للعاملين في المركز وعلى رأسهم الأستاذان الفاضلان الدكتور فيصل المشاري والدكتور عبد الله القاطعي.
ولا خير فينا إن لم نقل للمحسن أحسنت!

خاطرة:
جادك الغيث إذا الغيث هَمَى
يا زمان الوصل في الأندلس
لم يكن وصلُكَ إلا حُلماً
في الكرى أو خلسة المختلس

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي