تقييم المدارس الثانوية من خلال مركز القياس
فوجئ العديد من أولياء أمور الطلبة والطالبات بأن حصول أبنائهم وبناتهم على معدلات عالية في امتحان الثانوية العامة لم يشفع لهم في الحصول على قبول في الكليات التي يرغبون في الالتحاق بها، بسبب أن هذا الإنجاز كان في معظم الحالات إنجازا وهميا غير حقيقي، كما بدا واضحا وجليا من خلال النتائج التي حققوها في اختباري القياس والتحصيل العلمي الذي أظهر ضحالة المهارات والمعارف التي حصلوا عليها خلال تعليمهم العام، فالتدني الشديد كان السمة الواضحة في أداء معظم الطلاب في هذين الاختبارين بصورة لا تتناسب مطلقا مع معدلاتهم المتضخمة في شهادة الثانوية العامة، ما يؤكد عدم مصداقية درجاتهم في الثانوية العامة وبعدها التام عن الواقعية، وهي المشكلة التي يعتقد الكثيرون أنها ستزداد سوءا العام المقبل مع بدء تطبيق عدم مركزية اختبار الثانوية العامة.
وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى أنني أتوقع أن يحدث العكس تماما، وأن قرار إلغاء مركزية اختبار الثانوية العامة قد يتضح أنه واحد من أفضل القرارات التعليمية التي اتخذت في بلادنا منذ أمد بعيد، لأنه سيظهر على السطح ويعري تماما عملية التلاعب والمبالغة في درجات الطلاب التي تمارسها معظم المدارس الثانوية، خاصة الأهلية منها حاليا، فتفاقم مشكلة ارتفاع معدلات الطلاب غير المتلائم مع حقيقة تحصيلهم العلمي سيضطر الجامعات إلى تبني معايير قبول جديدة تحد كثيرا من أهمية معدل الطالب في الثانوية العامة وتعتمد بشكل متزايد على اختبارات القبول التي تقيس حقيقة التحصيل العلمي كاختباري القياس والتحصيل العلمي، ما يفشل استراتيجية المدارس الثانوية التي تستقطب الطلاب حاليا من خلال إغراء تضخيم الدرجات، وستجبر تلك المدارس على تقديم تعليم حقيقي لطلابها إن كان لها أن تنجح في إيصالهم إلى مجالات التعليم الجامعي التي يرغبون فيها، وهو ما سيسهم بالتالي في وقف التدهور المستمر في مستوى مخرجات التعليم العام، وهي الصفة التي لازمت مخرجاته لعقود.
المركز الوطني للقياس والتقويم، والذي يقوم حاليا بمهمة إعداد وتنفيذ اختباري القياس والتحصيل العلمي، يمكن أن يسهم بفاعلية في تعزيز عملية إصلاح التعليم العام وتحسين مستويات مخرجاته، من خلال عدم اقتصار دوره على مجرد إعداد وتنفيذ هذين الاختبارين فقط، وأن يكون من بين أهم مهامه إصدار تقييم سنوي للمدارس الثانوية وفق أداء خريجيها في امتحاني القياس والتحصيل العلمي. فمن خلال معايير تقيس مدى التباين في مستوى أداء خريجي كل مدرسة في امتحاني القياس والتحصيل العلمي مقارنة بأدائهم في امتحان الثانوية العامة، يُصدر المركز ترتيب علمي سنوي ranking للمدارس الثانوية في كل منطقة تعليمية، بحيث يكون هذا الترتيب دليلا لأولياء أمور الطلاب والطالبات في اختيار المدرسة التي ستؤهل أبناءهم للحصول على التعليم الجامعي المناسب لا مجرد خداعهم بمنحهم درجات عالية جدا ليصدموا بمستوى أبنائهم الحقيقي من خلال أداء متواضع في اختباري القياس والتحصيل العلمي. وهذا الأسلوب في تقييم المدارس الثانوية ليس بجديد، إنما يتم تطبيقه في معظم الدول المتقدمة، حيث تقيم المدارس الثانوية وفق مستوى أداء طلابها في اختبارات القبول الجامعي، وينبني اعتمادها العلمي على هذا الأساس. وهي مهمة من السهل على مركز القياس القيام بها حاليا، في ظل امتلاك المركز كامل المعلومات المطلوبة للقيام بهذه المهمة، فهي متاحة ضمن المعلومات التي يُزود الطالب بها المركز عند تقدمه لهذه الامتحانات. ويمكن تشجيع المدارس الثانوية على التنافس فيما بينها لرفع مستواها العلمي من خلال منح المدارس المحققة للمراكز المتقدمة في كل منطقة تعليمية أوسمة وجوائز مجزية، ما يشجعها على التميز ويسهم بالتالي في رفع مستوى التعليم العام.
إن مستقبل التنمية في بلادنا لا يرتبط بكمية الموارد المادية التي نملكها وإنما يعتمد بصورة أكبر على توعية وكفاءة مواردنا البشرية، ما يجعل من اللازم بذل كل جهد ممكن لإصلاح التعليم، وأن يكون من بين أكبر أولوياتنا البحث في أسباب تدني مستوى العائد على إنفاقنا على التعليم، وأن تتضافر جهود جميع الجهات للوصول إلى حل لهذه الإشكالية، وأن نرفع مستوى النقاش الوطني حول التعليم من مجرد حديث عن حاجة لإصلاح مناهج التعليم إلى دعوة لوضع خطة استراتيجية عاجلة توقف تردي التعليم في بلادنا، ما يجعل مخرجاته متواكبة مع حجم ما تخصص له الدولة بسخاء منقطع النظير من موارد نادرة، إلا أنها الآن، وفي ظل واقع التعليم الحالي، هي أقرب منها للهد من أن تكون استثمارا في رأسمالنا البشري.