دور القطاع الخاص في نشر الأنظمة
قدمت دراسة في منتدى الرياض الاقتصادي الأخير بعنوان: "النظام القضائي الحالي عائق أمام تحقيق التنمية المستدامة"؛ تناولت عدداً من المواضيع المهمة منها الموضوع السادس بعنوان: "نشر التشريعات".
والحقيقة إن هذا الموضوع يتمتع بأهمية خاصة في السعودية نظراً لصدور عدد كبير من الأنظمة الجديدة في السنوات العشر الأخيرة؛ كما تم تعديل أنظمة أخرى كانت سارية منذ مدة طويلة من الزمن؛ الأمر الذي يُثير مسألة تحديد تاريخ سريان تلك الأنظمة من حيث الزمان، وتحديد تاريخ التزام الأشخاص المخاطبين بها، والأثر المترتب على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ذلك أن صدور الأنظمة في المملكة يمر بمراحل متعددة ومتعاقبة هي: مرحلة الاقتراح، ثم مرحلة التصويت، ثم مرحلة المصادقة، ثم مرحلة الإصدار، وأخيراً مرحلة النشر في الجريدة الرسمية. ففي المرحلة الأولى يحق لكل عضو من أعضاء مجلس الوزراء اقتراح مشروع نظام متى رأى أن من المصلحة العامة بحثه بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء على ذلك؛ كما يحق لعشرة من أعضاء مجلس الشورى التقدم بمشروع نظام جديد أو تعديل نظام نافذ، بعد عرض ذلك المشروع على رئيس مجلس الشورى الذي يُحيله بدوره إلى خادم الحرمين الشريفين للنظر في أمره. ثم يتم إحالة الاقتراح إلى مجلس الشورى لدراسته وإعطاء الرأي بشأنه، ثم يُعاد مشروع النظام وما قد يطرأ عليه من تعديل أو تصويت أو تنقيح إلى مجلس الوزراء مرة أخرى. وفي حالة عدم وصول المجلسين إلى رأي مشترك فللملك إقرار ما يراه. أما المرحلة الثانية وهي مرحلة التصويت فيتم فيها عرض مشروع النظام في جلسة سرية على مجلس الوزراء بصفته صاحب السلطة التنظيمية؛ حيث تتم مناقشته والتصويت عليه مادة مادة بحضور ثلثي الأعضاء ويصدر القرار بأغلبية الأعضاء الحاضرين وعند التساوي يعد رأي رئيس الجلسة مرجحاً. وبعدها يقر رئيس مجلس الوزراء المشروع بالتوقيع عليه ثم يرفع إلى جلالة الملك بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية المناط بها تنفيذ القوانين بتوجيه الأمر إلى أعضاء السلطة التنفيذية لوضع أحكام النظام الجديد موضع التنفيذ، ويتم ذلك بإصدار مرسوم ملكي، يُضفي عليه شرعية وجوده وقوة نفاذه. وتأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة نشر النظام في الجريدة الرسمية، وهي تهدف إلى إعلام جميع الأشخاص في المجتمع بصدور النظام الجديد حتى يصبحوا مخاطبين ومكلفين بأحكامه. فالنظام بمجرد إصداره يُصبح نافذاً ولكن أثره القانوني لا يتعدى السلطة التنفيذية، فلا يلتزم الأفراد به إلا بعد نشره في الجريدة الرسمية لكي تتحقق إمكانية العلم به. ويترتب على ذلك أن النشر في الجريدة الرسمية (وهي جريدة أم القرى) هو الوسيلة القانونية التي يُعتد بها لافتراض علم جميع الأشخاص المخاطبين بأحكام النظام الصادر؛ ومن ثم فلا يُغني عنها أية وسيلة أخرى، حتى لو تحقق العلم الفعلي لهؤلاء الأشخاص بوسائل أخرى كالنشر بالصحف اليومية أو في الإذاعة أو التلفزة أو على شبكة الإنترنت أو بإصدار النظام في صورة مطبوعة. ولهذا فإنه لا يُعذر أحد بجهله أحكام النظام لكي يتحلل من تطبيقه عليه؛ ما لم يثبت بالفعل أن هناك استحالة لتحقق علم بعض الأشخاص به، مثال ذلك لو ثبت استحالة وصول الجريدة الرسمية لبعض الأشخاص لوجودهم في منطقة كوارث أو حرب.
ومن هذا يتضح أن التزام الأشخاص بأحكام الأنظمة وضمان تطبيقها وتفعيلها يتطلب نشرها في الجريدة الرسمية لضمان وصولها للجميع.
وقد رأت الدراسة التي أشرنا إليها أعلاه أنه رغم الجهود المبذولة في المملكة في نشر الأنظمة، سواء في الجريدة الرسمية أو في المطبوعات من قبل الجهات المعنية في القطاع الحكومي أو الخاص، وكذلك النشر عن طريق الوسائل الإعلامية، والمواقع الإلكترونية فإنها غير كافية، حيث رأى (58 في المائة) من عينة الدراسة أن وسائل نشر الأنظمة غير كافية. وقد توصلت الدراسة إلى وجود العديد من العوائق في هذا الجانب أبرزها خمسة عوائق.
والحقيقة إن القائمين على إعداد هذه الدراسة القيمة قد قدموا طرحاً قانونياً وعملياً رائعاً ومُفيداً من أشخاص مؤهلين ولديهم خبرات قانونية وعملية، وإننا نتفق مع ما ذكرته هذه الدراسة فيما يتعلق بالعائق الأول المتمثل في عدم تطوير الجريدة الرسمية؛ حيث إن النشر في هذه الجريدة يتمتع بأهمية قانونية كبيرة، ولا يغني عنه النشر بأية وسيلة أخرى. أما العوائق الأربعة الأخرى فتتعلق بمسألة إتاحة العلم الحقيقي للأشخاص المخاطبين بأحكام الأنظمة الجديدة، وهذه مسألة لا تندرج في إطار العلم المفترض بأحكام تلك الأنظمة والذي يُستفاد من مجرد النشر في الجريدة الرسمية، وهو الذي يعتد به من الناحية القانونية عند مساءلة المخاطبين بأحكام النظام. ولهذا فإننا نرى ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند نشر الأنظمة عن طريق الوسائل الأخرى، سواء أكانت من خلال أجهزة الإعلام أو الإنترنت، نظراً لأنها تتضمن غالباً أخطاء في طباعة الأنظمة، ومن ثم فلا يجوز التعويل إلا على النص الوارد بالجريدة الرسمية. ومن هنا تأتي أهمية التوصية الخامسة التي ذكرتها الدراسة السابقة التي تناشد على استحياء القطاع الخاص ليُسهم بدوره في عملية نشر الأنظمة واللوائح من خلال المطبوعات أو المواقع الإلكترونية. ونحن نرى، علاوة على ذلك، أهمية أن يُسهم القطاع الخاص، انطلاقاً من دوره الوطني، في عملية تطوير ونشر الجريدة الرسمية، باستخدام الوسائط الإلكترونية الحديثة، مع الإشراف من قبل المختصين على عملية النشر، حتى تتاح للمخاطبين بأحكام الأنظمة الجديدة فرصة العلم بنصوصها الأصلية الصادرة عن السلطة التنفيذية دون أخطاء، الأمر الذي ينعكس على المصلحة العامة.