القضاء والأنظمة بين المناقشة والتسليم

[email protected]

يقول الكاتب الإسلامي فهمي هويدي ليس من حق أحد أن يقف أمام الملأ ويقول: أنا الإسلام! وليس من حق أحد أن يتحصن بكتاب الله ليعلن علينا من ورائه أن من نصره وأيده فقد دخل في زمرة المؤمنين الصالحين، ومن خذله أو عارضه فقد خرج على كتاب رب العالمين، وصار من أعداء الإسلام المارقين! وليس من حق أحد أن يزعم أنه يتمتع بحصانة إسلامية خصته بها السماء من دون كل المسلمين، فرفعته فوق الرؤوس، ونزهته عن النقد والسؤال، وأحاطته بسياج من العصمة والقداسة.
هذه المقدمة أهدف بها إلى موضوعي الأساسي عن الكاتب المكي الدكتور زهير كتبي، حول عدد من مقالاته الجريئة عن القضاء، والقانون، وعلم الاجتماع، حيث اختلفتُ مع مجموعة من زملائي المحامين حول حق المثقفين في مناقشة الأمور القانونية أو الأحكام القضائية، ولعل هذا الأمر دفعني لقراءة أكثر من 30 مختلفاً للدكتور زهير كتبي وللأستاذ المفكر نجيب يماني والمهندس حسين أبو داود الذي أبدع في قانون العمل ونظام الزكاة والضرائب، ومن خلال أطروحاتهم أؤكد أن الكتَّاب والمثقفين الاجتماعيين لهم دور كبير في توضيح أغلب القضايا الشرعية والقانونية، والمجتمع يقدِّر لهم طرحهم العميق ورؤيتهم الثاقبة، فهم أفضل من أغلب الكتَّاب المحامين أو الشرعيين، والقانون بصفة عامة هو فرع من علم الاجتماع، وعلم الاجتماع بأسره علم إنساني يعود إلى الإنسان، ومن ثم فهو مجال مشترك لا يحجر ولا يحتكر في شرح أبعاده وتأثيره في المجتمع .. وفوق كل ذي علم عليم .. وآفاق المعرفة لا تحد.
وميزان العدالة يكون للكاتب الذي يمتاز بالموضوعية لا بالسطحية، الحريص على تأدية النصيحة كما أمره الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، على أساس واضح وبشفافية ومصلحة شرعية، مع ذكر الحلول المقترحة للخروج منها، ولا يذكر شعارات عامة وجذابة مثل: ( الديمقراطية – الإصلاح الديني – تحرير المرأة – المساواة – العدل ) بل يذكر المشكلة بوضوح ويقترح لها الحل الممكن الواقعي، مع مراعاة الثوابت الشرعية والعادات والتقاليد الاجتماعية.
كذلك فليس من المقبول أن نعترض على الكتَّاب والمثقفين - من غير رجال القضاء - أن يعالجوا أحكاماً أو يناقشوا نظاماً، أريد بها في النهاية الوصول إلى الأفضل من أجل تحقيق العدالة أو المساواة، كذلك لا توجد في الشريعة أدلة قاطعة تؤكد لنا أن ما تصل إليه المحاكم هو عين العدل أو الحقيقة نفسها؛ لأنهم بشر قد تصيب أحكامهم الحق، وقد يجانبهم الصواب، بحكم السلطة التقديرية المخوَّلة لهم، وبصفة عامة هم مأجورون طالما صدرتْ أحكامهم عن سعي حثيث ونية صادقة، فهي أولاً وأخيراً اجتهادات من القضاة أو المحامين ضمن القواعد الشرعية والأنظمة القانونية، فما أكثر وما أوسع مجالات التفسير والتأويل التي يمكن أن تصل من النقيض إلى النقيض، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن حكم القاضي هو (العدالة)، ولكن يمكن القول إن المحكمة طبقتْ تطبيقا سليماً ما لديها من أنظمة أو لوائح وتعاميم.
إلا أن احترام مكانة القضاء (كسلطة) والقضاة (كأفراد) ضرورة لاحترام سيادة النظام والقانون ورسوخ ميزان العدالة، والقضاة هم سدنة العدالة، ولكن هذا لا ينفي أن السدنة شيء، والعدالة نفسها شيء آخر، وبقدر توفيقهم في القضاء والحكم بين الناس بقدر ما يستحقون منا التقدير والإجلال، وفي الوقت الذي نقدِّر ما يبذلون من جهد وتفان فإننا في الوقت نفسه لا نرى داعياً إلى إرهاب المجتمع بـ (هيبة) القضاء وعدم المساس أو التعليق على الأحكام؛ لأن الأمر لا يتعلق بشخص القاضي ولكن بالحكم والحيثيات التي بني عليها، والحكم ليس ملكاً خاصاً للقاضي وحقاً من حقوق الملكية الفكرية، ولكنه يقوم على أسس وبيِّنات وسلطة تقديرية للقاضي، وبالتالي قد تخطئ المحكمة العامة أو الجزائية ويطعن فيها المتظلم ويعاد الحكم ويصدر مخالفاً للحكم الأول.
أعود إلى الدكتور زهير كتبي، الذي استطاع أن يخوض في أمور قضائية وسياسية، واجتماعية، وقدم بقدرته الفائقة في الوصف مع بساطة اللفظ وسلاسة المعنى وحرصه الشديد على عدم تجريح شخص بعينه. وهناك بعض المقالات التي لفتت نظري في عرض موضوعها وسرد أحداثها مثل مقال: "الحاكم وتفقد الرعية" ومقال: "الشرق الأوسط .. أم منطقة شومر؟" ومقال: "إنسانيات".
حيث عرض المقال الأول على أساس قرآني وبتسلسل بديعي وألفاظٍ بلاغية، موضحاً وظيفة كل من الحاكم والرعية ناصحاً ومرشداً بأدب جم، أما المقال الثاني فنوَّه فيه بالخطر المحدق وتخطيط الغرب ومن ورائهم إسرائيل إلى تفتيت الأراضي الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات صغيرة سواء على أساس العرق أو المذهب الديني، منبها إلى هدفهم الخبيث ومحذراً من خداعهم وتمويههم بإظهار الشعارات الكاذبة التي يتعاملون بها مع الناس، أما المقال الثالث: "إنسانيات" فهو عتاب اجتماعي لطيف لهؤلاء الفارغين الذين يسيرون بلا هدف وبلا هوية، إنما تحكمهم الأهواء، حيث عبَّر عنهم بأنهم يرقصون دون أن يطلب منهم الرقص، أو قد يكونون جاهزين للرقص في كل مناسبة وفي أي مكان وزمان.
ولكن أتوقف عند بعض المقالات وقد أراها بعين الرضا من طرفي، وقد يختلف الأمر عند غيري، وهي إثارته بعض المسائل الفقهية مثل: "إيقاف صلاة التراويح" ومقال: "من هو ولي الأمر؟" ومقال: "الواقع تغير والفتوى لم تتسع" والأخير: "هل علماؤنا من ورثة الأنبياء ؟" .. في هذا المسائل أقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؛ لأننا ندرك أهمية الرجوع قبل الطرح العام إلى علماء الدين ومناقشتهم فيها.
ختاماً.. الدكتور زهير كتبي أحد المثقفين والكتَّاب الذين يكتبون بموضوعية شديدة وصارمة، وعقلانية رفيعة عالية التأثير، والزميل ظاهرة فكرية تستحق التوقف والدراسة، بل أضم صوتي للأصوات التي تنادي بتقديره وتكريمه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي