قمر صناعي للطلاب فقط!
تناقلت وكالات الأنباء منذ أيام خبر إطلاق قمر صناعي روسي جديد، حيث حمله صاروخ الإطلاق بنجاح إلى مداره كجزء من برنامج أعدته وكالة الفضاء الأوروبية، ولكن القمر الجديد لم يكن قمرا عاديا حيث كان مصمموه طلابا!!
وعلى الرغم من أن حجم الإنجاز الذي تحقق لا يعد كبيرا بالمقارنة بغيره، حيث لا يعبر عن ابتكار أو اختراع جديد، ولكنه يسلط الضوء على اختراع قديم جدا كدنا ننساه.
والقمر الجديد الذي تم إطلاق اسم "SSETI Express" عليه، صممه الطلاب في حجم غسالة الملابس، وتم إطلاقه من قاعدة فضائية في "بليسيتسك" شمالي روسيا، ووصل بعد دقائق إلى مداره القريب من سطح الأرض، كما استقبلت محطة التتبع في مدينة "ألبورج" بشمال الدنمارك إشارات القمر الصناعي خلال أقل من ساعتين، كما أكدت وكالة الفضاء، ليستقر القمر الصناعي كواحد من ثلاثة أقمار "picosatellites" موزعة بشكل استراتيجي وكلها مصنوعة يدويا وتتميز بالوزن الخفيف جدا، حيث يبلغ وزن الواحد منها نحو كيلو جرام واحد فقط!.
أما الأكثر إثارة في هذا الموضوع فهو المهام التي من المنتظر أن يضطلع بها القمر الجديد، حيث من المنتظر أن يختبر القمر الصناعي الوليد نظاما للتزود بالطاقة يعتمد على الغاز البارد مهمته الإبقاء على سفينة الفضاء في موقعها والتقاط الصور لكوكب الأرض من الفضاء، كما أن للقمر الصناعي مهمة ثالثة تتعلق بإجراء تجربة إشعاعية في الفضاء المحيط بالأرض، ولكن هذه التجربة ما زال يكتنفها الغموض ولم تشر التقارير إلى طبيعتها.
وما لفت نظري في هذا الموضوع ليس الإنجاز الذي حققه مجموعة من الطلاب قد يستهين كثيرون بإمكانياتهم وقدراتهم، ولكنه حجم التعاون الذي يضرب هذا القمر الصناعي مثالا رائعا عليه، حيث تكاتف 23 فريقا طلابيا يدرسون الهندسة وعلوم الفضاء في 23 جامعة تقع في 12 دولة مختلفة، وليس من بينها بالطبع جامعة عربية واحدة، وعلى الرغم من أن عدد المشاركين في هذا المشروع بلغ 400 طالب، إلا أن مستوى التنسيق كان كافيا بشكل مكن الفريق من تجاوز صعاب كثيرة واجهت المشروع وأهلتهم في النهاية إلى النجاح في تحقيق هذا الإنجاز، أما الأمر الأهم فهو ما تشير إليه تقارير المتابعة الخاصة بهذا العمل، فبينما كان بعض الطلاب يساهمون في هذا الإنجاز كجزء من نشاطهم الطلابي الذي يتم من خلاله تقييمهم في نهاية العام الدراسي؛ كان البعض الآخر يساهم متطوعا في هذا العمل في أوقات الفراغ، التي هي بالنسبة لهم ليست في الحقيقة أوقات فراغ وإنما هي أوقات استمتاع بالإبداع والمشاركة في النجاح.
ولم يثبت الطلاب حقيقة إمكانية تحقيق إنجاز من خلال مجهود قد يستهين به البعض، ولكنهم أثبتوا أن المشروعات العملاقة لا بد وأن يقف وراءها تعاون عملاق يتجاوز مرحلة الأنانية العلمية والصراعات الشخصية ويشكل فرقا يسعى كل واحد منها إلى النجاح في مهمته مهما كلفه الأمر، ولو لم يجد مقابلا مباشرا ولحظيا، وهو بالضبط ما خطط إليه الطلاب منذ تولدت الفكرة في عقولهم، فقد ابتكروا تحديا استثنائيا ومجنونا وراحوا يتلذذون بتذليله مرحلة بعد مرحلة وكانت مساعيهم تستهدف تطوير علاقة قوية ومباشرة بين القطاع الصناعي والقطاع الأكاديمي في بلادهم، وقد استطاعوا تحقيق ذلك فعلا!
أما المفاجأة فتتعلق بمصادر تمويل هذا المشروع، وحجم هذا التمويل، ولا أخفيكم سرا أنني حاولت البحث عن إجابة لهذا السؤال في تقارير وكالات الأنباء التي تناولت الموضوع ولم أجده، فتوجهت إلى الموقع الرسمي للقمر الصناعي، فإذا بي أفاجأ بأنه ليس هناك أي تمويل رسمي للمشروع، أي أن هذا القمر الصناعي الصغير والذي من المنتظر أن يقدم خدمات جليلة لعدة مجالات أوروبية كلف ميزانيات الأوروبية "صفر"، ولكن هذا الصفر تحول بروح التعاون بين فرق الطلاب في الجامعات إلى إنجاز ضخم، فبينما اكتفت وكالة الفضاء الأوروبية برعاية المشروع ومتابعته؛ تكفل كل فريق بتمويل الجزء الخاص به سواء بشكل عيني أو من خلال التطوع بالعمل أو دفع النفقات المادية.
لقد أبطل القمر الصناعي الجديد ثلاث حجج أسمعها دوما في عالمنا العربي، وهي عدم قدرة الجيل الجديد على تحقيق الإنجاز، واحتلال الاهتمام ببرامج الفضاء مرتبة متدنية في سلم أولويات التنمية، وضعف التمويل، وكلها حجج تم إبطالها بضربة قاضية واحدة اسمها روح التعاون ونكران الذات!
وإذا كان هذا المشروع يطرح من جديد "اختراع التعاون" القديم كحل سحري لعقبات عديدة، فقد يكون من المتوقع أن نبذل هنا مزيدا من الجهد والوقت في "اختراع" حجج وعقبات جديدة تبرر روح التكاسل وعدم القدرة على تحقيق الإنجازات في هذا المجال.