الحرم المكي
إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وشرع آدابا لدخول حرم مكة من إحرام واغتسال، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن له ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب"، وقال، صلى الله عليه وسلم في حرمة مكة "لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف"، وقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا فقال إلا الإذخر.
لذا رأيت أن أخصص أحكام الحرم المكي بشيء من الحديث عنه لمكانة بيت الله ولما اختص به من مسائل وأولها استقبال القبلة لأهل حرم مكة، فقد اتفق الفقهاء على أن من كان معاينا للكعبة فإنه يلزمه التوجه إلى عينها سواء كان داخل المسجد الحرام أو خارجه، قال ابن عبد البر "أجمعوا على أنه فرض واجب على من عاينها وشاهدها استقبالها بعينها وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها فلا صلاة له"، وعن أسامة بن زيد، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع قبل البيت ركعتين وقال: هذه القبلة". رواه البخاري ومسلم، فقوله هذه القبلة يفيد الحصر والمعنى أن هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله، وروى نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما أنه قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إلا عند البيت" رواه الفاكهي في أخبار مكة وإسناده صحيح.
وإذا كان قريبا من الكعبة ولم يتمكن من مشاهدتها لحائل من عمود أو لتزاحم الصفوف أو يكون في أروقة الحرم فإن الواجب عليه إصابة عين الكعبة ولا يجوز في حقه الاجتهاد لأنه قادر على اليقين، قال ابن حزم: ولا خلاف بين أحد من الأمة إن امرؤ لو كان بمكة بحيث يقدر على استقبال الكعبة في صلاته فصرف وجهه عامدا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام من خارجه أو من داخله فإن صلاته باطلة"، وإن كان في ساحات الحرم فإنه يتعذر على المصلي إصابة عين الكعبة ولو كان قريبا فالذي يظهر، والعلم عند الله، أن الواجب والحالة هذه إصابة جهة الكعبة، إذ لو قلت بإصابة عين الكعبة لكان في ذلك حرج شديد، خصوصا مع بعض الصفوف فقد تمتد الصفوف في بعض الأوقات حتى تصل إلى الشوارع المحيطة بالحرم، وقد قال تعالى "فول وجهك شطر المسجد الحرام" فدل على أن من استقبل الجهة التي فيها المسجد الحرام فقد أتى بما أمر به سواء أصاب عين الكعبة أم لا، وهذه الآية في حق كل من لم يستطع إصابة عين الكعبة في صلاته فإن الواجب عليه إصابة جهة المسجد الحرام وهي قبلته.
وبالله التوفيق.