البحث عن أساس لعدالة توزيع الموارد (1)
للدولة ثلاث وظائف اقتصادية أساسية: التخصيص Allocation، تحقيق الاستقرار المالي Financial Stability ، والتوزيع Distribution . تتلخص الوظيفة الأولى – التخصيص – بتوزيع الموارد المالية للدولة بين أوجه الإنفاق العام المختلفة بشكل يحقق أفضل المكاسب الاقتصادية الكلية. أما الوظيفة الثانية – الاستقرار المالي – فتقتضي العمل على استخدام السياسة المالية والنقدية وأدواتهما بهدف تحقيق استقرار مالي في الدولة من حيث كفاية الموارد واستقرار المستوى العام للأسعار (التضخم). أما الوظيفة الأخيرة – التوزيع – والتي هي محور مقال اليوم، فتتضمن العمل على إعادة توزيع الموارد بين طبقات المجتمع، حيث تكفل توزيعاً عادلاً لتلك الموارد وفي الوقت نفسه الحفاظ على طبقة وسطى واسعة داخل المجتمع تحقق الأمان الاقتصادي والسياسي للدولة وتؤسس لنظام قائم على المشاركة السياسية.
وقبل الحديث عن قضية توزيع الموارد بين طبقات المجتمع ينبغي الاتفاق على مفهوم مشترك للعدالة في عملية توزيع هذه الموارد، مفهوماً يكون أساساً ومرجعاً لعملية التوزيع نفسها ومنطقاً للحكم على عدالتها. فهل العدالة تقتضي أن يتحمل كل شخص تكلفة الخدمة المقدمة له؟ بمعنى أن يكون مقياس العدالة الفرد نفسه وبحيث تتوزع تكلفة الإنفاق الحكومي بين أفراد المجتمع كل حسب استهلاكه منها، وفي الوقت نفسه يجني الفرد من هذه الموارد ما يساوي فقط قيمة ما يقدمه هو من عمل في المجتمع. إذا كان الأمر كذلك فهذا سيؤدي إلى تركز الثروات في أيدي أشخاص وعائلات بعينها مما سيؤدي إلى استحالة الانتقال بين مختلف الطبقات الاجتماعية، أضف إلى ذلك أن ولادة الإنسان فقيراً أو غنياً أمر لا ناقة له فيه ولا جمل، فهل من المنطقي أن يحكم على شخص ولد فقيراً أن يظل فقيراً بقية حياته، إذاً فمن غير المنطقي بناء قضية العدالة على الاستهلاك أو العطاء الفردي مما يجعلنا نبحث عن مفهوم أكثر شمولية لقضية العدالة. مفهوماً يأخذ العدالة بمفهومها الواسع لا الضيق حيث يكون عملية التقييم شمولية وليست فردية، إذا يستحيل في الواقع العملي إجراء عملية التقييم لمفهوم العدالة على المستوى الفردي. فالمفهوم الشمولي للعدالة يقتضي عدالة توزيع الموارد وعدالة توزيع عبء إنتاج هذه الموارد بين طبقات المجتمع الثلاث: العليا، الوسطى، ومنخفضة الدخل.
هذا الأمر يقتضي أن تتحمل الطبقة ذات الدخل المرتفع من المجتمع العبء الأكبر في عملية تمويل الإنفاق العام وذلك استنادا إلى أنها تجني نسبة أكبر من هذه الموارد مقارنة بفئتي الدخل المتوسط والمنخفض. وهذا الأمر منطقي نظرا إلى أن جزءاً كبيراً من الإنفاق العام يذهب لخدمة قطاع الأعمال الذي يملكه أصحاب الدخل المرتفع ، فالطرق داخل المدن وخارجها تستهلك بشكل كبير بواسطة سيارات الشحن وسيارات الخدمات التي يمتلكها قطاع الأعمال. بمعنى أن فئة قليلة من الناس (الملاك في قطاع الأعمال) تستهلك نسبة أكبر من العمر الافتراضي لهذه الطرق، مما يجعل من المنطقي تحميلهم بنسبة أكبر من تكلفة الإنشاء والصيانة لهذه الطرق، مما يتحمله أصحاب الدخل المتوسط والمنخفض.
وعملية توزيع عبء الإنفاق الحكومي بين مختلف طبقات المجتمع عملية ليست باليسيرة وتنطوي على الكثير من التعقيد وتعتمد بشكل كبير على منطق الحكم الذاتي القيمي على الأشياء Value Judgment، ولكنها على الرغم من ذلك أيسر في اقتصاد قائم على الضريبة كمصدر أساسي للدخل – كاقتصاد الولايات المتحدة – منها في اقتصاد ريعي معتمد على الموارد الطبيعية في الدولة كمصدر أساسي للدخل. فالخلاف أعمق بالنسبة للاقتصاد الريعي وتضارب الآراء أشد فيما يتعلق بتوزيع عبء الإنفاق الحكومي بسبب انتفاء عنصر الإسهام المادي للأفراد في إنتاج هذه الموارد. فالخلاف هنا يتعلق بماهية العدالة في توزيع ريع هذا المورد الطبيعي ومن ثم تأسيس مفهوم إعادة التوزيع على أسس ثابتة وراسخة.
ولكن الشريعة الغراء كفتنا عناء البحث في أساس عادل لتوزيع هذه الموارد عندما أكدت على أن عائد هذه الموارد يعود إلى بيت مال المسلمين (خزانة الدولة) ومن ثم للإنفاق العام للدولة. لكن على الرغم من ذلك فإن مشكلة العدالة في التوزيع تظهر مرة أخرى عندما يتم إنفاق هذه الموارد في أوجه الإنفاق العام المعروفة كالأجور ومشاريع البنية التحتية، حيث سيذهب جزء كبير من هذه الموارد إلى أيدي الطبقة المالكة لعناصر الإنتاج. (التتمة الأسبوع المقبل).