السيولة.. هل هي الإسعاف المالي المطلوب؟
السيولة التي تضخ حالياً في النظام المالي ليست إلا حلولا مؤقتة دون أن يكون لها أثر فعلي في أهم تحد قادم بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا ومناطق أخرى من العالم، وما يعتقده العالم بأنه علاج ليس إلا مجرد تسكين للوضع الحالي والآلام الحقيقية قادمة.
إن اقتراح حلول دائمة للأزمة المستعصية التي تولدت عن أسباب عديدة مركبة ومعقدة ليس بالأمر السهل، وعلى الرغم من اجتماع قادة الدول العشرين الأكثر نفوذا في العالم، وعلى الرغم من مجموعات العمل الأخرى الداعمة، إلا أن القرارات جاءت لتسكين الآلام ليس إلا والتسكين يعني أنها مؤقتة، إن مشكلة متفاقمة مثل البطالة وعدم توليد الوظائف نتيجة لعدم وجود سيولة لتشغيل المصانع والخدمات وغيرها من الأمور التي دخلت في ركود عميق يحتاج إلى حلول أكثر من مؤقتة، وأكثر من أن تكون كما كانت من قبل حلولا لصالح الفئة المتنفذة في العالم.
فالبنوك لن تقرض الفئات التي لا تمتلك ضمانات أو التي فقدت ضمانات كانت موجودة يوما ما نتيجة لتعثر أصحابها، بل ستقرض الدول عن طريق مؤسسة النقد العالميةIMF وكلنا يعلم أية شروط تشترطها مثل هذه المنظمات الدولية وعلى أي أساس تنبني هذه الشروط، وحتى على فرض تساوت الفائدة الربوية بالصفر فلا بد من تعديلها مستقبلا، وبذلك لن تكون حلا مستداما للأزمة، ولن تُقتلع الأزمة من جذورها، بل في الغالب سيزداد عدد الضحايا وهم في الغالب من الدول الضعيفة نسبيا ورعاياها، ويقع الظلم على الفقراء ليزدادوا فقرا وعلى المشردين في العالم الذين لا يملكون مأوى أو أصبحوا بلا مأوى ليزدادوا ضيقا مع عدم وجود وظائف متوافرة بالسرعة الممكنة.
تصور المسألة سهل للغاية، البنوك التي يتم إنعاشها بضخ السيولة فيها دون علاج حقيقي لأسباب الأزمة، ستتعرض بطبيعة الحال لمطالبات حكومية بتشريعات أكثر تشددا لمواجهة انعدام الشفافية في البنوك، وعدم الانضباط الذي عزت أغلب الدول أسباب الأزمة إليه، ومعنى التشدد في التشريعات الرقابية التشدد في شروط منح الائتمان، وبالتالي لن يكون مؤهلا للاقتراض إلا من هو صاحب ثروة فعلا ويمتلك ضمانات، وينتج من ذلك تعمق الركود وإلحاق الظلم بالفئات العاملة والمنتجة، إن النظام المالي القائم قد ثبت فشله والحلول المطروحة لا تعالج إلا أسبابا شكلية والباب يبقى مفتوحا لنتائج مترتبة على الأزمة المالية حتى بعد الحلول المقترحة.
وبعد انصياع العالم لرغبات قادة الدول العشرين على الرغم من أن المسببات الأساسية للظلم والحرمان في مختلف بقاع الأرض تبقى الآثار المترتبة على التشريعات الجديدة باتجاه البنوك قائمة ومنها مشكلة توليد الوظائف والتي تعتبر حدا فاصلا لمقومات الدولة والعيش الكريم، وهو ما تئن منه مكاتب التوظيف حاليا في أوروبا وستمتد العدوى بحسب التوقعات من دولة لأخرى.
ما نخشاه الآن هو وجود طلبات توظيف وبكثرة من الولايات المتحدة، وأوروبا، وأستراليا تطغى سيرتهم الذاتية على طلبات التوظيف المحلية، ومع التطور التكنولوجي ستعبر هذه الطلبات العالم في أقصى سرعة ممكنة؛ لذلك يجب أن تلتفت الحكومات العربية لأهمية وجود اعتناء بالغ بشروط رقابية حازمة تضمن صالح مواطنيها، إذ لا يزال عالمنا العربي على وجه التحديد تحت سيطرة الانبهار بالأجنبي وهذه العقدة مستمرة، وفي مقابلها نحتاج إلى دور سياسي رقابي حازم يحمي المواطنين وخاصة الكفاءات من هذا الطوفان البشري القادم، إذ إن التقارير الأخيرة تشير إلى تزايد أعداد العاطلين عن العمل في أوروبا، وأن العدد قد وصل إلى مليونين في بريطانيا وحدها بما يعادل 6.5 في المئة من معدل القوى البشرية المؤهلة للعمل فيها.
عند مقارنة هذه الأرقام مع معدلات البطالة في عالمنا العربي سنكتشف أن وضع القوى العاملة في بلادنا العربية أسوأ، إذ بحسب تقارير منظمة العمل العربية بلغ معدل البطالة لعام 2008، 14 في المئة، تلك التوقعات كانت في الأحوال العادية نسبيا، فكيف بها في حالات الركود وانعدام السيولة؟ للأسف لا توجد إحصائيات عن الوضع الحالي الآن، ولكن الأرقام السابقة والأوضاع المالية الحالية من الممكن التنبؤ من خلالها بما يمكن أن يكون عليه الوضع خاصة أمام جوازات السفر التي تجوب العالم دون تأشيرات إن كانت من دول العم سام.
إن الدول الإسلامية اليوم مطالبة باجتماع حقيقي وفاعل لدراسة الأسباب وراء الأزمة المالية الحالية ووضع خطط استراتيجية خاصة بناء على نتائجها ومن ذلك التركيز على التأثيرات الاجتماعية، وعليه نحن بحاجة ماسة إلى مراكز بحثية مدعومة بوعي بأهمية نتائج هذه الأبحاث من أصحاب القرار، والشفافية مطلوبة لتوفير المعلومات لهذه المراكز من أجل الخروج بنتائج وتوصيات تُدرج على طاولة المناقشة للسياسيين، إذ إن البيئة البحثية والتحليلية المبنية على الإحصاءات توفر أسلوبا أكثر مهنية وعلمية للوصول إلى نتائج حقيقية، ومن المؤكد أنه قد حان الوقت لقرار سياسي يدعم ذلك بشفافية ونزاهة، ويضمن الاستقلالية لمثل هذه المراكز لتبدأ البحث بطريقة مستقلة عن خصوصية تأثير هذه الأزمة وتوابعها على مؤسساتنا وواقعنا.
إذ لا تزال دولنا بحاجة إلى هويتها الخاصة في التشريعات المالية على وجه التحديد والتبعية في هذا الاتجاه لا تزال هي المسيطرة وحتى المبادرات لم نجد مبادرة عربية واضحة على الرغم من أننا نملك مباردة مالية إسلامية من الناحية النظرية وما نحتاج إليه هو تكامل النموذج واختباره عمليا، وبما أننا لا نملك صندوق نقد عربيا فاعلا، ولا نملك بنكا للبنوك المركزية، وتأثيرنا في سياسات البنك الدولي محدود، ولا نملك تشريعات خاصة إذ نتبع وبكل خضوع كل ما يصدر عن منظمة بازل للتشريعات المصرفية، ومع ذلك ما زلنا لسنا بمأمن من سياسات مالية استفاد منها المديرون التنفيذيون وضربوا عرض الحائط بأخلاقيات السوق ليظهرعلى ساحة أصحاب الملايين وجوه جديدة لم تكن معروفة من قبل ولتبدأ العجلة بالدوران من جديد وبزاوية 360.
* باحثة متخصصة في الصيرفة الإسلامية والتمويل - ماليزيا