تحويل لغة التدريس في جامعاتنا إلى الإنجليزية كارثة ثقافية
يعاني خريجو الجامعات السعودية ضعفا واضحا في حصيلتهم في اللغة الإنجليزية، وفي ظل اعتماد سوق العمل في المملكة على العمالة الأجنبية أصبحت لغة الأعمال بالضرورة هي الإنجليزية، ومن لا يجيدها في موقف أضعف عند المنافسة على فرص العمل المتاحة وفي إمكانية التقدم في السلم الوظيفي. بعض الجامعات السعودية أمام هذا الوضع، وفي ظل محدودية ما تحقق من تطبيقها فكرة السنة التحضيرية فيما يخص حصيلة الطالب في اللغة الإنجليزية، فكرت في اتخاذ خطوة أكثر راديكالية في تعاملها مع هذه المشكلة، وذلك باقتراح تحويل لغة الدراسة في التخصصات النظرية المطلوبة في سوق العمل، كالعلوم الإدارية مثلاً، إلى اللغة الإنجليزية بدلا من العربية، الذي يمثل في حال تنفيذه كارثة ثقافية يضاف إلى كونه ليس حلا لهذه المشكلة، وذلك للاعتبارات التالية:
1 - أن هذا التوجه يظهر عدم فهم واستيعاب المشكلة الحقيقية التي يعانيها نظامنا التعليمي، فالمشكلة ليست تدني حصيلة الطالب في اللغة الإنجليزية، وإنما تدن شامل في حصيلة الطالب في نظامنا التعليمي أياً كان نوع هذه الحصيلة. من ثم فواقع تحصيل الطلاب والطالبات في اللغة الإنجليزية أحد أعراض المشكلة وليس المشكلة نفسها، لذا فالحل يجب أن يكون أعمق وأكثر شمولية من مجرد تحويل لغة التدريس إلى الإنجليزية، ومن يعتقد أن هذا هو الحل فهو أشبه بمن يحاول أن يداوي التهابا حادا مزمنا بحبة أسبرين.
2 - أن كون لغة التدريس في الكليات العلمية كالهندسة والحاسب الآلي لم يضمن حصيلة عالية لطلابها في اللغة الإنجليزية، ولا أدل على ذلك من أن معظم هؤلاء الخريجين عندما يتم ابتعاثهم تلحقهم معاهد اللغة الإنجليزية في مسويات متدنية جداً تظهر محدودية تحصيلهم في اللغة الإنجليزية رغم أن لغة تدريسهم في جامعاتنا كانت الإنجليزية، بل إن عديدا من المعيدين والمعيدات المتخرجين والمتخرجات في أقسام اللغة الإنجليزية في جامعاتنا عندما يتم ابتعاثهم وبعد أن تجرى لهم اختبارات القبول في معاهد اللغة الإنجليزية في الجامعات الأجنبية يتم وضعهم في مستويات متدنية في تلك المعاهد، وهذا مؤشر واضح على أن هناك مشكلة أكبر وأعمق في نظامنا التعليمي، ويؤكد بشكل قاطع أن مجرد تحويل لغة الدراسة إلى الإنجليزية لن تحل ما يعانيه نظامنا التعليمي من ضعف واضح ومشكلات مزمنة.
3 - أن التعليم باللغة الإنجليزية قد يكون ضروريا في التخصصات العلمية كالطب والحاسب الآلي والهندسة كونها تخصصات علمية تشهد تطوراً متسارعاً ما يجعل هناك صعوبة في متابعة الجديد فيها لمن لا يجيد الإنجليزية، أما التخصصات الإدارية ونحوها من تخصصات فالمراجع العربية متاحة، وتنفيذ برنامج ترجمة لكل ما هو جديد ومهم في تلك التخصصات تكلفته ستكون أقل بكثير من تكلفة تحويل الدراسة في هذه التخصصات إلى الإنجليزية، ويمثل خدمة جليلة للغة العربية مسؤوليتنا الأخلاقية والثقافية تحتم علينا القيام بها في ظل ما يتوافر لنا من موارد.
4 - أن افتراض أن كل من درس في الولايات المتحدة أو غيرها من البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية من أعضاء هيئة التدريس شخص قادر على التدريس في اللغة الإنجليزية اعتقاد خاطئ جداً وفي غير محله مطلقا، وسيترتب على تدريسه باللغة الإنجليزية انخفاض حاد في مستوى وحجم المعلومات التي يوصلها إلى الطلاب، بالتالي نكون أسأنا من حيث توهمنا أننا نحسن ونصلح.
5 - أن معرفة بل حتى إجادة اللغة الإنجليزية في غاية الأهمية، لكن هذه الأهمية ليست إلى الحد الذي يجعل بعض القائمين على التعليم في بلادنا يتبنون برنامجا يتسبب في طمس هوية بلادنا الثقافية وهدم لغتنا الوطنية، بتحويلها إلى لغة غير حية لا يمكن الركون إليها في التعلم ولا يترجم إليها أي كتاب علمي ذي قيمة في أي تخصص كان، من ثم فمعرفتها والاستثمار فيها غير مجديين. واليابان وكوريا الجنوبية اللتان حققتا تقدماً هائلاً لم تحققاه من خلال إلغاء وتهميش لغتيهما الوطنيتين، بل من خلال تبنيهما برامج ترجمة طموحة نقلت ولا تزال تنقل كل جديد إليهما، وعدم إجادة معظم سكانهما اللغة الإنجليزية لم يقف حائلاً أمام تقدمهما بل حتى تفوقهما في مختلف المجالات، ما يثبت أن المحافظة على الهوية الثقافية، بل حتى تقويتها، لا يتعارض على الإطلاق مع التقدم والتطور.
6 - أن محاكاة الجامعات السعودية الأخرى تجربة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن محاكاة في غير محلها باعتبار محدودية عدد طلاب تلك الجامعة وصرامة شروط القبول فيها التي تضمن اتصاف معظم طلابها بالتميز، كما أن كونها تجربة متميزة نفخر بها ونتمنى لها أن تحقق مزيدا من النجاحات لا يعني مطلقا تعميمها في الجامعات كافة أو افتراض أن هذا هو السبيل الوحيد لتقوية حصيلة الطلاب في اللغة الإنجليزية، وأن نصبح غير مبالين ولا مكترثين بالانعكاسات السلبية والخطيرة لقرار شامل من هذا النوع على حيوية لغتنا وهويتنا الثقافية.
إن الواقع الكارثي الذي يعيشه نظامنا التعليمي بجميع مراحله في حاجة إلى نظرة أعمق وأكثر شمولية، تشخص مكامن الخلل الحقيقي فيه وتصل إلى حلول أكثر نضجاً تخرجه من واقعه المزري، بدلاً من الاستمرار في البحث عن الحلول بطريقة التجربة والخطأ التي لم ولن توصلنا إلى أي حل ناجع.