قلة وعي المواطن أم تقصير المرور؟!
عندما تزور بلداً أجنبياً فإن انطباعك الأولي عن مدى تطور ذلك البلد مرتبط بمستوى تنظيم حركة السير الذي يواجهك حال وصولك، فعندما تجد في المطار تنظيماً محكماً لحركة المواصلات ثم ترى التزاماً بأنظمة السير وأنت في طريقك إلى مقر إقامتك تشعر بأنك في بلد متقدم والعكس صحيح. على سبيل المثال، بوصولك إلى مطار الرياض وتطويقك من كل جانب بصراخ "تكسي يا ولد" ثم مشاهد الفوضى في حركة السير خارج صالة المطار، فإنك تستحضر مباشرة واقعا مغايرا رأيته في بلدان أخرى، ما يجعلك تحزن على الصورة الذهنية التي تتشكل لدى زائري بلادنا نتيجة هذا الواقع المزري الذي يمكن تصحيحه بيسر وسهولة, لكن لا يبدو أن أحداً يهتم بذلك.
السؤال المهم هو: هل ما يظهره المواطن السعودي من اكتراث محدود بأنظمة السير وميل غير عادي لمخالفة أنظمة المرور ناتج عن تدن في مستوى وعيه وثقافته أم أن ذلك ناتج عن قصور في أداء أجهزة المرور في المملكة؟ إجابة القائمين على أجهزة المرور ستكون على الأرجح، ودون أدنى تردد، أن المواطن يتحمل كامل المسؤولية، إلا أن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، فهذه الأجهزة في يدها وحدها تغيير هذا الواقع، وسأدلل على ذلك بعدة شواهد تظهر أن الالتزام بأنظمة المرور ليس ناتجا عن ثقافة أو وعي إنما مرتبط بشكل كامل بمهنية رجال المرور ومدى التزامهم بتطبيق ما وضعوه من أنظمة للسير.
المواطن السعودي الذي يخالف أنظمة السير ولا يبدي أي اكتراث بها في مدينة الخبر أو الدمام تجده بمجرد عبوره جسر الملك فهد إلى البحرين قد تحول بقدرة قادر إلى شخص آخر شديد الالتزام بأنظمة المرور ويبذل جهداً غير عادي لتفادي ارتكاب أي مخالفة مرورية, فهل ارتفع وعي هذا المواطن وثقافته في نصف ساعة بحيث أصبح الآن شخصا متحضرا متقيدا بالأنظمة ويظهر احتراماً شديداً لها؟ الإجابة بكل تأكيد هي لا، وأنه فقط غير سلوكه ليقينه التام بأنه لن تمرر له أي مخالفة مرورية لما يتصف به رجل المرور في البحرين من مهنية وحزم في تعامله مع مخالفي أنظمة السير. أيضاً أذكر أننا عندما كنا ندرس في الولايات المتحدة أن الواحد منا يشعر بارتباك عندما يرى سيارة الشرطة فيبادر إلى التأكد من ربطه حزام الأمان ومن أنه غير متجاوز السرعة النظامية ونحو ذلك من قواعد مرورية، وهذا ليس ناتجا عن أننا أصبحنا أكثر ثقافة ووعيا وإنما فقط بسبب علمنا التام بأن أي خطأ من هذا النوع لن يتجاوز لنا وسيعني دون شك حصول المخالف على قسيمة سيكون الثمن الذي يدفعه نتيجة لها كبيراً، فتكرر المخالفات المرورية يعني فقدانك حقك في قيادة السيارة لمدة من الزمن أو حتى بشكل نهائي، وسيصلك على الأرجح خطاب من شركة التأمين يفيد بإلغاء تأمينك أو على الأقل رفع كبير في تكلفته عليك بصورة قد تجعل من الأجدى لك أن تستخدم النقل العام بدلاً من امتلاك سيارة، ونحو ذلك من تعقيدات هائلة يتسبب فيها حصولك على عدد محدود من المخالفات المرورية، أي أن وعينا لم يرتفع والذي ارتفع هو فقط تكلفة عدم التزامنا بأنظمة السير.
في المقابل، هناك مدينة مكسيكية اسمها تايوانا تقع مباشرة على الجانب المكسيكي من الحدود مع ولاية كاليفورنيا الأمريكية يقصدها كثير من الشباب الأمريكيين خاصة من سكان مدينة سان دييغو, التي تقع مباشرة على الجانب الأمريكي من الحدود، وعندما تزور هذه المدينة ترى العجب العجاب، فالأمريكي الذي كان قبل أقل من ربع ساعة يظهر انضباطاً وتقيداً لا مثيل له بأنظمة السير حتى بقواعد السلوك الأخلاقي ينقلب إلى شخص آخر تماماً فيرتكب كل ما يخطر ببالك من مخالفات مرورية ويقوم بشتى أشكال الفوضى وعدم الاكتراث بالأنظمة، ويبدو الشباب الأمريكيون هناك كما لو أنهم ينتمون إلى أكثر شعوب العالم تخلفاً وأنهم لم يسبق لهم مطلقاً التقيد بأنظمة السير أو احترام الذوق العام، فهل قل وعيهم وثقافتهم بمجرد عبورهم خط الحدود إلى تايوانا, أم أن معرفهم التامة بأنهم لن يكونوا عرضة للعقوبة كما هو الحال في الولايات المتحدة جعلهم يتصرفون بشكل مختلف تماما؟ وأنت قبل أن ترى هذه المشاهد قد تكون على قناعة تامة بأن ما يظهره الأمريكيون في بلادهم من التزام بأنظمة السير مرده تحضرهم وارتفاع وعيهم، إلا أنك تكتشف أن هذا عائد بشكل كامل لمهنية وحزم رجل المرور الذي ردع الجميع ورفع تكلفة عدم التقيد بأنظمة السير بحيث لا يجرؤ أحد على مخالفتها.
هذه الشواهد تظهر أن الوعي والثقافة لا علاقة لهما البتة بالالتزام بقواعد المرور، وأن تعديل سلوك المواطن والمقيم وجعله أكثر احتراماً لأنظمة السير يتحقق بمجرد تأكده أن مخالفته لن تمرر له وأنه سيدفع ثمناً غالياً لها، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن رفع مهنية رجل المرور والتزامه بتطبيق الأنظمة باليسر والسهولة نفسيهما؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المقال التالي.