مهنية رجل المرور الغائبة
ذكرت في مقال سابق أن عدم تقيدنا بالقواعد المرورية ليس ناتجا عن نقص في الوعي والثقافة وإنما نتيجة طبيعية لغياب العقوبات الرادعة ودللت على ذلك بعدة شواهد تؤكد يسر وسهولة فرض الالتزام بأنظمة المرور، ثم تساءلت هل يمكن رفع مهنية رجل المرور والتزامه بتطبيق الأنظمة باليسر والسهولة نفسيهما؟ والإجابة بكل تأكيد هي لا.. فالمهنية تعني من ضمن ما تعنيه أن يكون الشخص متبعاً لمعايير أخلاقية صارمة في أداء عمله، فهو يتبع الإجراءات النظامية دون تأثر بعوامل عاطفية فيتعامل مع المشكلات التي تواجهه بعقلانية وفقاً للحقائق الماثلة أمامه، والشخص المهني احترامه لذاته يقوم ويعتمد على الطريقة التي يؤدي بها عمله وفق إحساس عميق بمسؤوليته نحو مجتمعه.
مثال على هذا المستوى العالي من مهنية رجل المرور أن الرئيس الأمريكي جون كنيدي خرج في أحد الأيام من البيت الأبيض يقود سيارته بنفسه دون حرسه وتجاوز الحد النظامي للسرعة فتعرض للإيقاف من شرطي مرور، وفوجئ بأن الشرطي يطلب منه تقديم رخصة القيادة واستمارة السيارة فاعتقد أن شرطي المرور لم يتعرف عليه، وقال في نفسه إنه حتماً سيدرك من أكون عندما يقرأ الاسم المدون في رخصة القيادة، إلا أنه فوجئ برجل المرور يطلب منه الانتظار ويعود لسيارة الدورية وفق الإجراء الروتيني لرجل المرور في الولايات المتحدة حيث يقوم بتدقيق وثائق قائد المركبة ثم يدون قسيمة المخالفة ثم يعود ويسلمها للسائق موصياً إياه بأن يقود بأمان، وقد اعتقد الرئيس الأمريكي أن هذا الشرطي على درجة من الجهل بحيث إنه لم يتعرف عليه حتى الآن إلا أنه فوجئ بشرطي المرور يقول له بعد تسليمه قسيمة المخالفة: سيدي الرئيس من فضلك اتبعني فسأسير أمامك لأفتح لك الطريق. أي أن هذا الشرطي على درجة عالية من المهنية بحيث إنه لم يكن يرى أي فرق بين رئيس الولايات المتحدة وأي مخالف آخر لقواعد المرور، فكل من يخالف يلقى جزاءه، وبعد أن قام بالمهمة الموكلة إليه قام أيضا بما يرى أنه واجب القيام به نحو رئيس الولايات المتحدة.
أتذكر مثل هذه الحادثة عندما أرى رجل مرور يقف في سيارته عند إحدى الإشارات ويرى عشرات السائقين يقطعون الإشارة ويرتكبون مختلف المخالفات المرورية ولا يجد في ذلك ما يدفعه إلى التدخل واتخاذ موقف حازم من ذلك بحيث أصبح قائد المركبة يرتكب المخالفة المرورية أمام ناظري رجل المرور لأنه يفترض أنه لن يبالي بمخالفته أو يعيرها اهتماما، وعندما أرى دورية المرور تمر في شارع فيه عشرات السيارات المتوقفة بصورة غير نظامية تعوق حركة المرور ومع ذلك يواصل رجل المرور مسيره كما لو أن الأمر لا يعنيه، أو عندما يباشر رجل مرور حادثا مروريا وكل ما يعنيه في الأمر هو سرعة إنهاء الموضوع بأي طريقة حتى لو كان ذلك من خلال تحميل المسؤولية عن الحادث لأحد السائقين بنسبة 100 في المائة لا لشيء إلا لأنه يحمل تأمينا على سيارته.
رجل المرور الذي يرتكب أي من ذلك لا يمكن أن يتصف بأي مستوى مقبول من المهنية، وتحقيق مستوى عال من المهنية من قبل رجل المرور يتطلب جهوداً هائلة بما في ذلك تنفيذ برامج إعادة تأهيل مكثفة، وعلى الأرجح سيكون عدد كبير من العاملين في هذا القطاع غير قادرين على اكتساب الخصائص المهنية التي تؤهلهم للعمل في بيئة مختلفة يكون رجل المرور فيها حريصا على ضمان عدم حدوث أي مخالفة مرورية ومعاقبة كل مخالف وفق دافع ذاتي لا لمجرد أنه عمل يتقاضى عليه راتبا وكلما كان ذلك بجهد أقل كان ذلك في رأيه أفضل، وسيطلب الأمر استقطاب كفاءات أكثر تأهيلاً ومناسبة لأداء هذا الأعمال بما في ذلك المستويات الإدارية العليا في المرور التي قد تكون تعودت واستمرأت العمل الروتيني الرتيب بحيث يستحيل أن تكون مناسبة لتولي القيادة في بيئة عمل تتطلب جهدا أكبر ومهنية أعلى، وبقاؤها قد يتسبب في إعاقة عملية التطوير والتغيير.
والحقيقة أن علينا عدم الاستهانة مطلقا بالدور الذي يمكن أن يسهم فيه الالتزام بقواعد المرور في تطوير المجتمع وجعله أكثر تحضرا وهدوءا. فقائد المركبة الذي يمشي في الطريق وهو حريص جدا على تفادي أي مخالفة مرورية لتأكده بأنها لن تمرر له وأن الثمن الذي سيدفعه لقاءها كبير جدا لا يمكن أن يمارس الاعتداء باللفظ أو اليد أو أن يقود سيارته بتهور في طريق عام فعواقب ذلك ستكون أكبر وأخطر، ومن يقود مركبته بحذر خشية ارتكاب مخالفة مرورية سيكون أيضا أكثر حذراً من أن يرتكب غير ذلك من مخالفات أمنية وأخلاقية، وسيكون للحزم في تطبيق الأنظمة المرورية دور في ترويض أفراد المجتمع وجعلهم أكثر احتراماً للأنظمة بشكل عام. ولعل الانطباع الذي يتركه بعض أبنائنا في البلدان الأخرى من تدن في احترام الأنظمة بصورة تسيء لبلادنا يعود إلى عدم تعويدهم على الالتزام بالأنظمة، وتعودهم على الغوغائية التي لا يدفعون أي ثمن لها والتي تظهر من خلال ممارستهم التفحيط في الشوارع العامة أو الاحتفال باليوم الوطني أو بفوز فريقهم بطريقة مخلة بالآداب والذوق العام وإغلاق الشوارع وتحويلها إلى حلبات رقص والاعتداء على الآخرين والتعرض لهم بطريقة مخلة، فعدم ترويضهم محليا جعلهم يعتقدون أن من الممكن عدم التقييد بالأنظمة في البلدان الأخرى ما جعلهم عرضة للعقوبة وأظهرهم بصورة تسيء إلى بلادنا.