مشكلتنا ليست في تسعير نفطنا بالدولار!

بادر عدد من المسؤولين في الدول المصدرة للنفط إلى نفي ما ذكرته صحيفة بريطانية من أن هناك محادثات سرية تجري بين عدد من الدول المصدرة للنفط لاستبدال الدولار كعملة لتسعير نفطها في السوق العالمية. والغائب عن هذا الطرح حقيقة أن ليس هناك أي تأثير سلبي في الإيرادات النفطية الحقيقية للدول المصدرة نتيجة تراجع سعر صرف الدولار خلال السنوات القليلة الماضية، فالسوق النفطية كانت باستمرار تستجيب لكل انخفاض في سعر صرف الدولار بارتفاع في أسعار النفط في السوق العالمية، بحيث نجد أن أسعار النفط الخام ارتفعت خلال السنوات القليلة الماضية بأضعاف نسبة انخفاض سعر صرف الدولار وبما يزيد كثيراً على ما كان مناسباً لتعويض الدول المصدرة عن تراجع سعر صرف الدولار.
من جانب آخر، فإن دول النفط بتسعير نفطها بالدولار تستفيد في الواقع من المرونة الهائلة في أسعار النفط الذي توفره لها عمليات تداول النفط في أسواق المال الأمريكية، حيث يتداول في تلك السواق كميات تعادل مئات إن لم يكن آلاف مرات إنتاج العالم من النفط يوميا، فاستثمار صناديق التحوط وغيرها من الصناديق الاستثمارية في عقود النفط الآجلة أسهم بفاعلية في جعل أسعار النفط الخام لا تعكس فقط ظروف العرض والطلب الآنية وإنما تعكس أيضا توقعات المستثمرين المستقبلية لتوازن العرض والطلب على النفط، التي غالباً ما تميل إلى توقع حدوث شح في المعروض النفطي خلال السنوات المقبلة، ما أسهم بصورة كبيرة في ارتفاع أسعار النفط ومحافظتها على مستويات مرتفعة نسبياً حتى في ظل أزمة المال العالمية، وهو أمر ربما كان متعذرا لو لم يكن النفط يتداول في السوق المالية الأمريكية بالعملة نفسها التي تُسعر بها الدول المصدرة نفطها.
إذاً ما مشكلتنا الحقيقية مع التراجع الكبير المتوقع في سعر صرف الدولار؟ في الواقع أحد أهم الإفرازات المؤقتة لأزمة المال العالمية أنها - على عكس ما كان متوقعا - ترتب عليها ارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسة الأخرى كاليورو مثلا، فقناعة المستثمرين بأن الولايات المتحدة تملك مرونة أكبر في تعاملها مع الأزمة المالية من تلك المتاحة لدول الاتحاد الأوروبي، في ظل تقييدات العملة الموحدة التي تحد من قدرة دول الاتحاد على التعامل مع الأزمات المالية الطارئة وكذا التباين الحاد في الظروف الاقتصادية بين دول منطقة اليورو، أضعفا من الثقة بالعملة الأوروبية الموحدة وبقدرتها على أن تكون عملة بديلة للدولار في التبادل التجاري وكعملة احتياط دولية. لذا نجد أنه مع كل اشتداد في الأزمة المالية يرتفع الدولار ومع كل بادرة انفراج يتراجع، بل إن سعر صرف الدولار ومؤشر داو جونز أصبحا يأخذان في الغالب اتجاهين متعاكسين، فمع كل ارتفاع في ''داو جونز'' ينخفض الدولار والعكس صحيح. أي أنه مع اطمئنان المستثمرين بأن الأسوأ في هذه الأزمة قد مر تزداد الثقة بالأسواق المالية، ويسيطر على المستثمرين قلقهم حول مصير الدولار ويزداد تخوفهم من تراجعه بحدة في ظل النمو الهائل في عجز الميزانية الفيدرالية الأمريكية والضخ الهائل للسيولة في النظام المصرفي الأمريكي، الذي لا بد من أن يعقبه ـ في نظرهم ـ تراجع في سعر صرف الدولار, أعاق حدوثه حتى الآن عدم تأكد المستثمرين في العالم من أن الأزمة قد انتهت وأن الأسوأ منها قد ولى فعلا.
لكل ذلك فإن دول النفط لا يمكن أن تحمي اقتصاداتها من التراجع المتوقع في سعر صرف الدولار من خلال تسعير نفطها بعملة أخرى أو بسلة عملات، فأسواق المال كفيلة بأن تقوم بهذه المهمة نيابة عنها وتحميها من أي انخفاض مستقبلي في سعر صرف الدولار، والمشكلة الحقيقية التي ستواجهها الدول النفطية جراء هذا الانخفاض المتوقع في سعر صرف الدولار ترتبط بشكل مباشر بسياسات تسعير عملاتها الوطنية التي ستجر سعر صرفها للتهاوي أمام العملات الأخرى نتيجة تثبيتها أمام الدولار, الأمر الذي يترتب عليه تراجع حاد في مستويات المعيشة وارتفاع كبير في معدلات التضخم في ظل اعتمادها الكبير على السلع المستوردة، دون أن يملي ذلك أي فوائد إيجابية على اقتصاداتها كون معظم صادراتها من النفط الخام، وبالتالي ليس هناك أي انعكاس إيجابي مهم لهذا الانخفاض في أسعار صرف عملاتها على قدرتها التنافسية.
وإن كانت أزمة المال العالمية قد أنقذت السلطات النقدية في الدول النفطية من النتائج الكارثية التي كانت اقتصادات بلدانها تعانيها جراء إصرار تلك السلطات على إبقاء أسعار صرف عملاتها ثابتة أمام الدولار دون أن تعيد تقييمها أو تربطها بسلة عملات، فإن الوقت قد بدأ ينفد أمامها من جديد لاتخاذ قرار من هذا النوع يضمن حماية اقتصاداتها من تأثير هذا الانخفاض المتوقع في سعر صرف الدولار، وأما تأثيره في إيراداتها النفطية فالأسواق المالية كفيلة بذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي